«كورونا»… الرعب المعولم ونهاية التاريخ
د. كميل حبيب _
عام 1992 أصدر فرنسيس فوكوياما كتابه الشهير «نهاية التاريخ»، والذي أعلن فيه أنّ الإنسانية لم تجتز حقبة في تاريخها الحديث، بل انتهى تاريخها مع سقوط الاتحاد السوفياتي وما نتج عنه من نهاية لتطوّر العقائد والايديولوجيات، وسيطرة عولمة الديمقراطية الليبرالية كالشكل الأخير من أشكال النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. بنى فوكوياما أطروحته مفنّداً كتابات ماركس وهيغل اللذين رسما تاريخ الإنسانية من خلال خط تقدّمي ينطلق من ملحمة اقتصادية – اجتماعية الى أخرى.
لم يكن فوكوياما محقاً في أطروحته لأنّ العولمة سقطت أمام التنوّع الثقافي العالمي، وهي في أحسن أحوالها، لم تفِ بوعودها في نشر الازدهار الاقتصادي الى كلّ زوايا الكرة الأرضية. وما وجد فيه فوكوياما نهاية للصراعات الدولية، بدا العالم أكثر تأزماً من ذي قبل، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تعافي روسيا الاتحادية وصعود الصين الاقتصادي. هذا يعني أنّ الصراع على الساحة الدولية بقي سمة الحياة العامة. وهذا الصراع لا يقتصر على الساحة الدولية بل انسحب أيضاً على المجالين الإقليمي والمحلي.
من وسائل التواصل الاجتماعي التي كان متوقعاً منها نشر المعارف وتقريب وجهات النظر فيها يعني إيجاد الحلول للأزمات الدولية (الفقر، التلوّث وانتهاكات حقوق الإنسان…)، إذا بها تنشر معارف سيئة للكيان البشري. فازدهرت حالة الخداع المعرفي غير المبنية على أية قواعد علمية مثبتة، إذ أصبح كلّ فرد منصة إعلامية بحدّ ذاته، يناضل في سبيل حريته ومصلحته الذاتية غير آبه بحياة المجموعة وصيرورتها. هذا لا يعطي الحق للأنظمة الدكتاتورية ان تنتهك حقوق الفرد باسم حقوق الجماعة. ما نتحدّث عنه هو الأنانية المستشرية عند الأفراد والدول.
لم تغيّر الدول من تقاليدها، فاستثمرت في تصنيع أسلحتها الفتاكة أو شرائها لحماية حدودها ولإقامة التحالفات ضدّ الدول الأخرى. وما يُحكى عن وجود مجتمع دولي وقرية كونية ومصير عالمي برهن بشكل قاطع أنه كلام إنشائي لا محسوس له على أرض الواقع. وبقي الشكّ وانعدام الثقة والحقد والكراهية الخاصية الأساس للعلاقات بين الدول. وعاد النقاش في الأروقة الأكاديمية عن توازن القوى الدولي وسباق التسلح وامتلاك المعرفة التكنولوجية لمدخل لامتلاك القوة.
كلّ هذا الى أن تفشى وباء كورونا في جمهورية الصين الشعبية، وانتشر بسرعة تفوق سرعة الضوء الى كلّ أنحاء المعمورة. هذا الفيروس القاتل غير المنظور فرض نفسه كعدو للإنسانية جمعاء، وبدت أمامه الترسانات العسكرية والأحلاف والقوة الاقتصادية عاجزة عن الحدّ منه او احتوائه. لا بل انّ ردة فعل الدول عكست الحدود الدنيا في الافتاء مجاله الطوارئ ودعوة مواطنيها الى التزام منازلهم لفترة زمنية غير محدّدة. كما تمّ إقفال المحال التجارية والملاهي والمطاعم وألغيت الدورات الرياضية، ومُنعت التجمعات والحفلات، وهبطت أسعار أسهم الشركات الكبرى كما هبط سعر برميل النفط بشكل غير مسبوق منذ عام 1992.
هكذا ببساطة وجدت الدول نفسها عاجزة عن إيجاد اللقاح اللازم للقضاء على الوباء المجرم. فجوازات السفر لم يعد معمولاً بها، وبقي للإنسان حرية واحدة… حجر نفسه في منزله. حتى دور العبادة – الصلاة والتأمّل أقفلت أبوابها أمام جموع المؤمنين. وخلال ساعات على تفشي الوباء انتهت عادات وتقاليد عمرها آلاف السنين: المصافحة، التقبيل، تبادل الزيارات إلخ…
نعود الى «نهاية التاريخ» عند فوكوياما لنقول انّ وباء كورونا هو من أنهى التاريخ الإنساني القائم على المنافسة والخصومة والعداء. ونهاية التاريخ هنا لا تعني نهاية العقائد والايديولوجيات، بل الإنسان. فربما يكون فيروس كورونا قد فتح الباب أمام بني البشر ليجاهدوا في سبيل اختراع لقاح للشفاء. الأمر الثاني هو انّ الوباء الخبيث ألغى الحدود بين الدول بثوان معدودات، وفعل فعله المجنون بوضع نهاية لحياة آلاف البشر، تماماً كما كانت تفعل الشركات المتعدّدة الجنسيات التي جنت أرباحها عبر تجويع مئات الآلاف من البشر. المتغيّر الثالث هو انّ الدبابات والطائرات الحربية وحاملات الطائرات وترسانة الأسلحة النووية تقف اليوم عاجزة أمام جرثومة اسمها كورونا. فالدولة العظمى اليوم هي التي يتمكّن علماؤها من احتواء الفيروس القاتل واختراع العلاج الشفائي له. وإذا لم يحصل ذلك في القريب العاجل، فانّ نهاية التاريخ الاجتماعي لن ينتظره أحد لإعلان نعيه…..
*عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية