ماذا بعد كورونا…؟
} لواء العريضي
منذ فجر التاريخ وعالمنا يواجه التحديات والأزمات المتتالية التي ساعدت وسرّعت وصولنا إلى ما نحن عليه اليوم. يبلغ عمر الأرض حوالي خمسة مليارات عام، وقد مرّ عليها الكثير من الكوارث الطبيعية التي غيّرت بشكلها ومناخها وحياتها، فسنحت لبعض الكائنات بالمضيّ قدماً وأجبرت كائناتٍ أخرى على الانقراض.
بحسب النظريات العلمية، بدأت الحياة على الأرض من تطوّر الجسيمات شبه الفيروسية لميكروبات، ومنها لكلّ ما نراه اليوم. فمن قلّة في منسوب الأوكسجين الى كثرته، ومن تدنّي مستوى المحيطات الى ارتفاعه، وصولاً إلى النيازك والزلازل والبراكين والحركة التكتونية، كلها عوامل أرست القوانين الطبيعية والعلمية التي نعرفها في عصرنا.
انّ وجود الإنسان البدائي على الأرض لا يتعدّى الواحد في الألف من عمرها. واذا أردنا احتساب التاريخ الجلي المكتوب من عمر الإنسان فلا يتعدّى الواحد في المليون (أيّ 000000,1) من عمر الأرض. سجّل التاريخ صعود وأفول الكثير من المخلوقات، منها انقرض ومنها طوّر نفسه للتأقلم مع الحياة مثل الحوت الأزرق والزرافة والفراشات. فلا شك أنّ انقراض الديناصورات لعب دوراً أساسياً بتطوّر الثديات التي يُعتبر الإنسان من عائلتها. وأمثلة عديدة يمكننا ذكرها لكن المقصود هنا هو العبرة.
انّ انتشار الأمراض ليس بالأمر الجديد، فقد عرف الإنسان الأمراض الضارية منذ نشأته. كانتشار الطاعون والسلّ في العصور الوسطى والأرقام الخيالية في الضحايا. فمثلاً مع دخول اسبانيا والبرتغال على أميركا الشمالية والوسطى، أدّى انتشار الفيروسات الى إبادات جماعية تتعدّى أعداد ضحايا المجازر والحروب التي شنّوها على هذه الشعوب. ولكن اليوم ومع التطوّر العلمي ووجود الدواء لكلّ داء، بات من الصعب العودة لتلك الأزمنة حيث الموت بالمرض المعدي يكون بهذه السهولة.
الإنسان هو ابن الأرض أيّ ابن الطبيعة. وما ذكرناه ليس إلا طريقة الأرض لتجديد نفسها في كلّ حقبة من الزمن. التعبير العلمي لهذه الطريقة هو «الانتقاء الطبيعي» حيث المخلوق يُجبر على تطوير قدراته لينجو، أو يكون مصيره الموت والانقراض. انها التجربة الأولى للانتقاء الطبيعي التي نشهدها منذ الثورة الالكترونية الحديثة في ظلّ عصر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بغضّ النظر عن مصدر الفيروس أو كيفية انتشاره.
فأمامنا حلّان لا ثالث لهما، التطّور لننجو أو الوداع! ومن المؤكّد أننا سنختار التطوّر. وهذا التطوّر يبدأ من حياتنا اليومية أيّ أنه تطوّر اجتماعي. فالعديد منا ربما قد أهمل النظافة الشخصية بالطريقة التي تقي من الفيروسات، والتي أصبحت متاحة أمام الجميع لتعلّمها الآن. اننا نحب المصافحة الحميمة وتبيّن أنها أكثر الطرق سهولة لنقل الفيروس، فابتعدنا عنها. كلنا نحب الجمْعات والتجمّعات واليوم أصبحنا نتجنّبها. عادة «الأركيلة» التي تشكّل مكمناً للفيروسات باتت بحاجة الى تعديل لا سيما في المقاهي. وفي السنوات الأخيرة شكّل الأكل خارج المنزل أهمّ العوامل السياحية والحياتية، فدفعنا الفيروس للعودة الى المأكولات المنزلية والاعتماد على الطبخ المنزلي النظيف. هذا غير تجدّد فكرة العائلة بعد وصولنا إلى مكان اضمحلالها في النظام العالمي الجديد. كما أنّ مناهج التعليم وطريقة التدريس الأساسي والجامعي وسبل الامتحان للشهادات العليا ستتطوّر.
معظم الشركات قد أخذت قرار العمل من المنزل، وعند تأقلم السوق على هذا النوع من العمل ستكون هناك ارتدادات مباشرة على رواتب الموظفين انْ كان من ناحية التقليل من مخصصات المواصلات أم من ناحية تقليل الهاوية بين رواتب الذكور والإناث. مما سيتيح للأمهات الموظفات فرصة أكبر للتواجد مع الأولاد بدل تركهم في مدارس الحضانة خارج المنزل.
على الصعيد الاقتصادي بتنا نعرف أهمية الزراعة والصناعة، وأنّ الاقتصاد الخدماتي الريعي هشّ لا يمكن الاتكال عليه. فالدول الكبرى تعاني تجاه مواطنيها والكلّ يتجه نحو إغلاق حدوده، فالانفتاح الذي عاصرناه وشُنّت حروب من أجله اختفى عند ظهور فيروس غير مرئي، وجميع البورصات العالمية أخذت تتهاوى. سنعرف أهمية الثروة المائية في بلادنا قبل معرفة البترولية. وسنعرف أنّ الأرض الصالحة للزراعة أثمن من الأرض الصالحة للبناء. كما أننا قد نرى نهاية بعض أنواع الخدمات والأعمال مقابل ظهور الجديدة منها التي تتلاءم مع تطوّر ألأرض.
على الصعيد البيئي، العمل من المنزل وإقفال بعض المصانع والمطارات سيعطي انتعاشاً للطبيعة ولو كان قصير المدى ويقلل نسبة الملوّثات في الهواء. ربما هذه هي أبرز إيجابيات هذا الفيروس. فالطبيعة بحاجة لقسطٍ من الراحة بعدما أنهكها واستنزفها الإنسان.
الى ما أبعد من ذلك، هناك مسائل إضافية ستطرح نفسها، كالصلاة الجماعية في مختلف الأديان والطقوس المتبعة بها. فإذا كان غياب هذه الصلاوات حراماً في أيام السلم، هل أصبح حلالاً في الأزمات! بالرغم من حاجتها الماسّة اليوم. هل يمكن لهذا الفيروس أن يعيد الدين الى معناه الأساسي في القلوب داخل البيوت؟ هذا الفيروس ذكّر الغني أنه إنسان كأخيه الفقير، وليس مخلوقاً مرفّعاً لامتلاكه المال. مقولة «معك قرش بتسوى قرش» ستسقط وتصبح «أنت صحيح فأنت غني».
انها آليّة الانتقاء الطبيعي بأبهى حالتها.
ختاماً اننا قادمون على تغيّرات جمّة في عالمنا، ودورنا أساسي للمساهمة بالتقدّم والتطوّر، فلحسن حظنا انّ وسائل التواصل الاجتماعي موجودة وفعّالة، فبدل ان تكون مكاناً لنشر الرعب والهلع، يجب ان تبقى وسيلة لنشر التوعية والطمأنينة والمساعدة بالنهوض من هذه الكارثة. فهناك مسؤولية على كلّ فرد منا بنشر التوعية والمساهمة بالحلّ كلّ حسب قدرته. والتقيّد بإرشادات منظمة الصحة العالمية واجبٌ للوقاية.
بدأت الحياة بفيروس فهل تكون النهاية بالمثل؟ الكثير من التصورات المستقبلية تتوقع انّ سكان الارض المستقبليين هم الفيروسات والبكتيريا، ولكن اليوم بسبب التطوّر العلمي والمراهنة على وعي الإنسان أهمية بقائه حيّاً، ستسقط هذه الفرضية.