إعرف عدوّك (4)
} وجدي المصري
«صهيون كلمة كنعانية تعني المرتفع»
(من كتاب القدس : المسيحية والتاريخ
والتراث لعبدلله سليم عماره).
يكاد يكون هناك إجماع على أنّ كلمة «صهيون» هي من جذور كنعانية، وهي تعني المرتفع أو التل أو الجبل، وأضاف بعض الدارسين بعض الصفات الى الجبل منها الأقرع (أيّ الأجرد)، الجافّ نسبة لندرة تساقط المياه فوقه، اليابس والناشف. يقول الدكتور نبيل طعمه بأنّ «صهيون» تعني صهوة الجبل أو أعلى قمة منه. أمّا الدكتور أحمد داود فيقول: صهيون تعني في القاموس الكلداني: اليابس، الناشف العطشان. وأحمد عثمان أعاد الكلمة إلى أصل مصري واعتبر أنها مؤلّفة من شقين الأول صي والثاني أون، وفسّرها بأنهّا المدينة المقدّسة للأرض المهجورة. وأعتقد أنّ هذا التفسير بعيد عن الحقيقة لجهة إعادتها إلى أصل مصري، لأنّ اللغة العبرية لم تنشأ إلاّ بعد تواجد بني إسرائيل في أرض كنعان، وكانوا في بداية ظهورهم على مسرح الأحداث يتكلمون الكنعانية، وعندما حلّت الآرامية مكان الكنعانية وتخطّت سورية الطبيعية وأصبحت الى حدّ ما لغة عالمية، اقتبس بنو إسرائيل منها الكثير، وبدأوا بكتابة لهجتهم الخاصة بأحرف قريبة جداً من الأحرف الكنعانية الآرامية التي تطوّرت لاحقاً لتعرف بالسريانية. لذلك أعتبر بعض الدارسين أنّ الكلمة العبرية صيّون هي صهيون في الترجمة العربية المأخوذة عن السريانية وهي تعني جبل صهيون في القدس. ورأى آخرون أنّ اللفظة آرامية من الجذر صوا أي عطش وجفّ وهو مرادف للجذر صها الذي اشتق منه أسم صهيا بحيث أنّ صيغة صيون تعني البقعة العطشى، ويؤكّدون أنّ اللفظة آرامية اطلقت على قسم من المرتفعات الشرقية لمدينة القدس ( يبوس)، حتى أنّ أحد أبواب المدينة سُمّي «باب صهيون» وإحدى كنائسها سُمّيت «كنيسة صهيون».
أمّا الدارسون التوراتيون فيقولون بأنّ صهيون أو جبل صهيون (جبل داود) في اليهودية هو مكان سكن يهوه (إله بني إسرائيل)، وسيكون مركز خلاصه المسيحاني، وبالنسبة لليهود فإنّ صهيون تُعتبر وطن العبرانيين، ورمز لآمالهم القومية، ومن هذه الكلمة جاء مصطلح الصهيونية. فما هي علاقة العبرانيين بهذا الجبل؟ ولماذا شملت كلمة صهيون كامل الأرض التي تواجدت فيها قبائل العبرانيين قديماً حتى أطلقوا عليها أرض صهيون؟ إذا ما عدنا إلى التوراة لوجدنا أنّ كلمة صهيون لم ترد في الأسفار الخمسة الأولى. وبدأت ترد هذه الكلمة في سفر صموئيل الثاني الذي أشار فيه كاتبه إلى أنّ داود الملك ذهب ورجاله « إلى أورشليم إلى اليبوّسيين سكّان الأرض»، صموئيل الثاني 6:5. فكلام كاتب التوراة واضح، بالرغم من عدم قناعتي بصحّته، لجهة أنّ سكان الأرض الأصليين هم اليبوسيون، وهؤلاء كنعانيون، وأورشليم كانت تسمّى يبّوس بداية، فكيف أصبحت مباشرة مدينة داود؟ إنّه التزوير اليهودي للتاريخ وللجغرافيا، ونحن وإن سلّمنا جدلاً بأنّ داود « أخذ حصن صهيون، وأقام فيه وسمّاه مدينة داود» صموئيل الثاني 7:5.9، فهل هذا يُلغي حقيقة أنّ صهيون، كجبل أو كحصن، كانت موقعاً كنعانياً وهو جبل في القدس مقدّس، « وقداسته سابقة على اليهود وهي قداسة كنعانية. وهذا الجبل المقدّس في الأساطير الكنعانية يقطنه كبير الآلهة وفيه مجمع الآلهة»، كما يقول تيسير خلف في مجلة الجديد؟
وبمقارنة بسيطة بين كلام تيسير خلف وما جاء في التوراة نجد أنّ بني إسرائيل الذين عاشوا في أرض كنعان الجنوبية أي فلسطين، تأثروا بشكل كبير بثقافة الشعب الذي سبقهم للسكن في هذه البقعة من الأرض بآلاف السنين، فاستعاروا منه الإله يهوه، والمكان المقدّس، أي جبل صهيون، ونسبوا الى داود أنّه احتل هذا الجبل وأطلق عليه اسم مدينة داود أو حصن صهيون، وفوق هذا الجبل عزم على بناء مسكن ليهوه، لكنه لم يستطع أن يحقق ذلك، لأنّ يهوه غضب عليه وأوكل هذه المهمة إلى إبنه سليمان الذي حقّق رغبة يهوه وبنى له هيكلاً فوق هذا الجبل. وعبثاً حاول الآثاريون البحث عن هذا الهيكل بعد احتلال اليهود لفلسطين وقيام دولة «إسرائيل»، لكنّهم لم يعثروا على ما يثبت أنّ هذا الهيكل موجود بالفعل، بل توصل معظمهم إلى التشكيك بوجود الملكين داود وسليمان اللذين يُعزى اليهما إنشاء مملكة إسرائيل القديمة، والتي انقسمت بعد موت سليمان ثم اندثرت ولم تصمد أكثر من سبعين سنة حسب الرواية التوراتية.
لقد أستطاع اليهود من خلال تفكيرهم الديني المُنغلق أن يربطوا بين جبل صهيون، بعد أن اتخذوه مسكناً لإلههم، وبين النصوص التوارتية التي أعطت هذا الجبل بُعداً دينياً مقدّساً، تشبّها» بسكان الأرض الكنعانيين، الذين كانوا أهل حضارة راقية حيث يكفيهم فخراً أنّهم أهدوا البشرية أول أبجدية، فكانوا بحق معلّمي الأمم القديمة التي أخترعت أبجديتها الخاصة على نسق الأبجدية الكنعانية، فأسقطوا على الأحرف الأصوات المناسبة.
أستغل اليهود بدءاً من القرن السابع عشر المفاهيم القومية التي أطلقها بعض مفكّري أوروبا، فقام منظّورهم بتحرير هذه المفاهيم لكي تتماشى مع مخططاتهم السياسية، وادخلوا العنصر الديني فجعلوه أساس التجمعات البشرية، توصّلاً إلى القول بقومية يهودية. ومن هذا المنطلق يمكن تطبيق نظريتهم على الآخرين ليصبح لدينا أمة مسيحية تشمل جميع المسيحيين في العالم، وأمة إسلامية تجمع كلّ المسلمين في العالم. لم يأخذ المسيحيون بهذه النظرية لأنّهم كانوا قد انتقلوا من مفهوم الدولة الدينية الى مفهوم الدولة المدنية، أمّا المسلمون فتماهوا مع نظرية اليهود حيث ما زلنا نسمع لغاية اليوم عبارة الأمة الإسلامية. في كتابه العلمي دحض سعاده هذه النظرية قائلاً : « الأمة تجد أساسها، قبل كلّ شيء آخر، في وحدة أرضية معّينة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها». وهذا التحديد العلمي للأمة يتناقض كلياً مع المفهوم الديني لها والذي إنطلق منه اليهود ليقولوا بأنّهم يشكّلون شعباً واحداً وبالتالي هم يشعرون بشعور قومي واحد مشترك. فالشعور الديني لا يمكن أن يكون هو نفسه الشعور القومي. وسعاده أوضح ذلك في كتاب نشوء الأمم عندما قال: « فاليهود احتفظوا بيهوديتهم الجامدة من حيث هم مذهب ديني. وقد أكسبهم دينهم الشخصي عصبية لا تلتبس بالعصبية القومية إلاّ على البسطاء والمتغرضين. اليهود ليسوا أمة أكثر مما هم سلالة ( وهم ليسوا سلاسة مطلقاً )، إنّهم كنيس وثقافة» ويقصد سعاده بكلمة ثقافة الثقافة الدينية المحدودة والمحصورة بتعاليم وشريعة موسى كما كتبها عزرا في القرن السادس قبل الميلاد، وأكملها جمع من الكتبة غير المعروفين على مدى مئات السنين.
لقد تلاقت طموحات اليهود بإقامة دولة قومية يجتمع فيها يهود العالم، مع دعوات بعض الساسة الأوروبين لإقامة وطن لليهود في فلسطين الذين ينتمون إلى طائفة البيوريتانيين البروتستانت، خاصة في بريطانيا منتصف القرن السابع عشر. وهذه الدعوات إرتكزت إلى المفاهيم الدينية اليهودية لا المسيحية، وذلك بعدما استطاع اليهود، كما مرّ معنا، من إدخال تغييرات على الأناجيل أقنعوا من خلالها أنّ المسيحية تجد جذورها في اليهودية، ولا تكتمل مسيحية الإنسان إلاّ إن آمن بما ورد في العهد القديم. وفي القرن التاسع عشر أطلق أنتوني آشلي كوبر، المعروف باسم اللورد شانتسبري، مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فسوّقتها الصهيونية على أنّها حقيقة، وبالتالي هم يقدّمون للإنسانية خدمة كبيرة من خلال إقامة دولتهم في هذه البقعة المهجورة المعدمة، حيث بإمكانهم نقل الخبرات التقنية التي تعلموها في أوروبا إلى الأرض الجديدة الموعودة.
إنطلت هذه الخدعة على معظم المؤمنين في العالم، عن قناعة لدى البعض وترهيب للبعض الآخر. وارتكز الترهيب على العامل الديني الذي يؤكّد على ضرورة تحقيق كلام الله ووعده، بعد أنّ زوّر مترجمو العهد القديم كلمة يهوه إلى الرب حيناً والله أحياناً أخرى. يقول الدكتور جورج قرم في كتابه ( تعدّد الأديان وأنظمة الحكم) بأنّه « حيثما وردت كلمة الربّ في شواهد التوراة فهي في الأصل يهوه». وهذا ما أكّد عليه الإله يهوه حسب الرواية التوراتية حيث يقول الكاتب بأنّ الله ( إله بني إسرائيل) قال لموسى : « هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي ( أي يهوه) إلى الأبد وهذا ذكري إلى دور فدور»، خروج 15:3. وهذا الإله يهوه لم يقل عن نفسه بأنّه إله الكون بل حصر ألوهيته ببني إسرائيل. كلّ تعاليمه وأوامره كانت توجّه فقط لبني إسرائيل، ولم يطلب من أنبيائه، الذين كانوا ينبتون في بني إسرائيل كالفطر، ان يبشّروا بالشريعة كلّ الناس، كما فعل يسوع ومحمد، لذلك بقيت هذه الشريعة محصورة بعدد محدود تشدّد لدرجة التزمت بقبول الولادات الجديدة كتابعين لهذه الديانة، وما زالت دولة العدو لغاية اليوم لا تعترف بيهودية أي شخص إن لم تكن أمّه يهودية. ولم يكفي هذا الإله أنّه أعتبر نفسه إلهاً خاصاً ببني إسرائيل، بل أكّد أكثر من مرّة أن بني إسرائيل هم شعبه الخاص، وهذا ما حدا بعالم النفس، اليهودي المنشأ، سيغموند فرويد للقول في كتابه موسى والتوحيد : « إنّه لممّا يبعث على دهشة أكبر أيضاً أن نرى هذا الإله يختار لنفسه على حين بغتة شعباً من الشعوب ليجعل منه «شعبه « ويُعلن أنّه إلهه، هذه على ما أعتقد، واقعة يتيمة في تاريخ الأديان الإنسانية».
وبالرغم من كلّ ذلك كنّا لنتقبّل هذه الجماعة بكلّ موروثاتها الدينية الغريبة لو لم يكن إلهها إلهاً عدوانياً شرساً يحضّها على القتل والنهب والتدمير والتهجير. بعض المؤمنين يقولون صادقين بأنّ يسوع علّمنا أن نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا، وأنّه بالمحبة وحدها نتغلب على الشر، وهذا كلام صحيح لكنّه لم ينجح مع هذه الجماعة التي لم يستطع يسوع نفسه إقناعها بالتخلي عن الشريعة القديمة البالية واتباع شريعته الجديدة المحيية، فكيف لنا أن نستطيع نحن النجاح خاصة بعد أن مضت ألفيتان من السنين شهدتا على تربية أجيال على الحقد، التعالي، العنصرية وعدم الإعتراف بحق الغير.
ستبقى دولة إسرائيل دولة احتلال تمارس العنصرية والإبادة، وستبقى بالنسبة لنا دولة عدوة، وساكينيها أعداء لنا حتى ولو تعالت بعض الأصوات المنتقدة والداعية الى السلم، إذ لا سلم مع من يبشّرنا به ويبقي إستعداده للحرب قائماً. لا سلم مع من ما زال مقتنعاً أنّه صاحب السيادة على هذه الأرض، لإنّه في غفلة من الزمن لفّق له كتبته تاريخاً مزوراً، وكياناً سياسياً وهمياً. فلئن خاف أهل الأرض أجمعين من هذه الجماعة الدينية الإرهابية، فإنّنا لن نخضع لإرهابها، وستبقى بنظرنا، ومن الوجهتين السياسية والدينية، مجموعة عدائية غير متجانسة مع نسيج شعبنا الحضاري. ومهما استسهل سياسيونا الخضوع والخنوع فسنبقى نعمل من أجل رقي أمتنا ومجدها وعزتها، وذلك باستمرار مواجهتنا لهذا الجسم السرطاني الغريب.