ماذا يُغيّر «كورونا» في العالم؟
سعاده مصطفى أرشيد*
انطلاقاً من قواعد النسبية وأن لا وجود لخير مطلق أو شر مطلق في العالم المحسوس، وبعيداً عن مالتوس ونظريته السكانية، وعن نظريات المؤامرة التي تزدهر في مثل هذه الأوقات، نتساءل ونحن نرى هذا الوباء يفترس النفوس البشرية، ويذهب بالناس وآمالهم وأحلامهم وأموالهم باتجاهات مجهولة، فهل يمكن الأخذ بنسبية الأشياء والقول إنّ الوباء من الممكن له أن يكون سبباً في انفراج بعض من أزمات عالمنا العربي ومشرقنا المثقل بالهموم، والتي لا تقلّ وحشية وفتكاً وبالآثار المدمّرة على مستقبل أبنائنا من الوباء. وهل ستكون سبباً في تغيّر دولي شامل، عندما ينهار هذا العالم ويقوم على أنقاضه عالم جديد، خاصة بعد أن رأى الجميع أنّ هنالك ما هو أخطر من الحرب، فهذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة وإنما يحتاج إلى تكبيره بالمجاهر المخبريّة الدقيقة عشرات آلاف المرات، أصبح أقوى وأخطر من كلّ أنواع البنادق والطائرات الحربية والصواريخ الذكية والقنابل الذرية والهيدروجينية وما يليها من أسلحة الموت والدمار.
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ترافق مع انهياره سقوط النظام العالمي الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية، وهو نظام القطبية الثنائية، ليصبح العالم أمام نظام القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. خضع العالم للنظام الجديد الذي أبدى قوة وجبروتاً وأثبت أنه يملك قوى غير مسبوقة في مجالات السياسة والاقتصاد والعلم والتسلح، إضافة إلى انعدام في القيم ووصلف ووقاحة وقدرة غير مسبوقة أيضاً في الكذب وتزييف الحقائق التي كان العالم مضطراً إلى تصديقها ولو على مضض كما رأينا في روايته عن أسلحة الدمار الشامل الوهمية في العراق، على سبيل المثال لا الحصر، وما ترتب على هذا الادّعاء من تدمير بلد عمره يزيد عن ستة آلاف عام بثرواته وآثاره وسكانه، لم يكن بالمكان تصوّر أن يمارس هذا القدر من التوحّش على أعتاب القرن الحادي والعشرين وفي ظلّ التطور في عالم الاتصال ونقل الأخبار. صمد نظام القطب الواحد حتى الآن أمام محاولات عديدة جادة لإقامة نظام متعدد الأقطاب، ولا زال يرفض التخلي عن أحاديته فيما الأطراف الأخرى لا زالت تحاول فرض رؤيتها وتحقق بعض النجاح، وإذا كان عالم ما بعد وباء كورونا ليس كما قبله، فإنّ فرصة تلوح في الأفق لبداية أفول النفوذ الأميركي الأحادي، لصالح نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب، يضع حداً للنظام القديم وانحطاطه وتغوّله على العالم، خاصة مع الأداء السيّئ للإدارات الأميركية المتعاقبة قبل الإدارة الحالية والأسوأ فيها هذه الإدارة. لن تبدي إدارة ترامب الاهتمام بالشعب الأميركي وسلامته، بفقرائه وعماله وأقلياته، وقد تجاوز عدد المصابين بالوباء حاجز المئة ألف عند كتابة هذا المقال، وإنما بالأثرياء منه وبأرباحهم وامتيازاتهم. لن تهرع هذه الإدارة للوقوف مع العالم الذي تقوده، أو حتى مع أصدقائها وحلفائها الذين داروا في مجالها المغناطيسي منذ عام 1945، ماذا سيكون مصير هذا الحلف بعد أن رأى الطليان والإسبان وباقي الأعضاء في حلف الناتو كيف تعاملت الإدارة الأميركية معهم في أزمة الوباء؟ وماذا تجدي القواعد الأميركية والمناورات العسكرية المشتركة طالما يتمّ التخلي عنهم بدلاً من دعمهم والوقوف إلى جانبهم في الحرب ضدّ كورونا؟ الرئيس الأميركي وإدارته غير منشغلين بمصير الطليان والإسبان وغيرهم وإنما يشغلهم بقاء الرئيس الفنزويلي الذي اختاره شعبه بملء إرادته الحرة لوراثة ابو فنزويلا الحديثه الراحل تشافيز، وقد أعلنت الإدارة الأميركية عن مكافأة 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تساهم باعتقال الرئيس مادورو بتهم لا يصدّقها أحد.
أما في القارة العجوز والتي تنازلت عن دورها للولايات المتحدة بسبب ما لحق بها من خراب نتيجة الحرب العالمية الثانية، فقد كان لها محاولات مبكرة للانفكاك عن الولايات المتحدة، وكان للرئيس الفرنسي المتميّز شارل ديغول رؤيته التي ترفض أن ترى فرنسا خارج نادي الكبار، ولكنه أدرك أنّ ذلك لا يمكن أن يكون إلا إذا استطاعت حشد أوروبا من خلفها والى جانبها، فعمل جاهداً على إنشاء المجموعة الأوروبية (السوق الأوروبية المشتركة) والتي مرّت بمراحل تطوّر عديدة حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث اعلن عن ولادة الاتحاد الأوروبي وتمّ توقيع اتفاقية ماسترخت، في هذا الاتحاد تتنازل الدولة القومية العضو لصالح الاتحاد عن سياساتها الخارجية والدفاعية والنقدية وفي الصيد البحري والزراعة، وتكثف التعاون في السياسات القانونية والداخلية، وإثر ذلك استبدلت العملات القومية باليورو وتم توحيد تأشيرات الدخول لدول الاتحاد باتفاقية (شنغن). حافظ الاتحاد على وحدته وتماسكه برغم الإزعاج البريطاني الذي خرج من الاتحاد عام 2016.
لم تثن الرياح والعواصف الاتحاد منذ عام 1992 لا بل استطاع الثبات والمواجهة، إلى أن أتى الوباء ليصيبه كما أصاب بني الإنسان، فقد انكشفت عوراته وهشاشته وظهر أنه كان يختفي وراء قشرة رقيقة، وأنه اتحاد الضرورة والمصالح العاجلة أكثر منه اتحاد القناعة والمصير المشترك والعقيدة الراسخة، فمثلما أحبطت الولايات المتحدة إيطاليا وباقي دول حلف الناتو، نرى أنّ دول الاتحاد بدورها قامت بدور شبيه في إحباط الطليان الذين لم يجدوا عند شركائهم الدعم والمساندة، وأكثر ما صدر عن هؤلاء الشركاء ما نسب إلى المستشارة الالمانية إنجيلا ميركل من أنها تتعاطف بشدة مع المواطنين الإيطاليين في أزمتهم، ولكنها لم تضف إلى تعاطفها شيئاً من (القطران) على شكل دواء أو معدات أو غذاء أو مال أو أيّ شيء يدعو المواطنين الإيطاليين للصمود في وجه المحنة التي يواجهون لدرجة جعلت من رئيس الوزراء الايطالي يحذر من أنّ الاتحاد الأوروبي قد يفقد مبرّرات وجوده بسبب التقاعس الذي أبداه الشركاء في الاتحاد في نجدة بلاده.
هكذا يبدو وضع الاتحاد هشاشة وضعفاً وبوادر انحلال، وستعود الأمم الاوروبية إلى قومياتها الأصلية وتدع أوهام بناء عالم أوروبي قادر على نطاح القوى التي تطلّ برأسها لقيادة العالم، وقريباً قد يختفي اليورو ويعود الألماني إلى المارك والفرنسي إلى الفرنك والنمساوي إلى الشلن والإيطالي إلى اللير.
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الضفة الغربيّة.