حول إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ في لبنان
زياد حافظ*
إذا كان الطريق للخروج من الأزمة المالية الحادة والواقع الاقتصاديّ المزريّ في لبنان يتطلّب سلسة إجراءات كإعادة هيكلة الدين العام وإعادة هيكلة الاقتصاد اللبنانيّ، فإنّ كلّ ذلك يتطلّب إعادة النظر في القطاع المصرفي القائم في لبنان سواء على مستوى حاكميّة مصرف لبنان وكافة أجهزتها أو على المصارف اللبنانية كمجموعة متكاملة ومتكافلة في خلق المأزق المالي وتفاقمه وعرقلة الجهود لتصحيح الوضع. فالقطاع المصرفيّ بشقّيه الحكومي (مصرف لبنان) والخاص (جمعية المصارف) الذي كان يُعتبر دُرّة الاقتصاد اللبناني أصبح وصمة العار والفشل في آن واحد. فدور القطاع المصرفي في خلق الأزمة لم يكن حديثاً أو طارئاً بل كان نابعاً عن خيارات وسياسات معتمدة منذ 1993.
ما يهمّنا في هذه المقاربة هو استشراف حلول تتناول دور القطاع المصرفي. وهذه الحلول لا بدّ من أن تقارب بشكل مباشر الأسباب التي أدّت إلى وقوع الكارثة المالية والاقتصادية بسبب فعل القطاع المصرفي ومَن يدور في فلكه. وبالتالي لسنا من دعاة «تعويم» المصارف التي تقترب من الإفلاس الفعليّ لكي تعود إلى ممارسة السياسات السابقة، بل لمحاسبتها ومحاسبة مسؤوليها قبل تطبيق إجراءات إعادة الهيكلة التي سنعرض خطوطها العريضة في فقرة لاحقة. وكذلك الأمر بالنسبة لمصرف لبنان. فعملية الإنقاذ تتطلّب عملية تنظيف الخرّاج قبل تطبيق المراهم والمضادات الحيوية لذلك القطاع. والفساد في الطبقة السياسية ليس بعيداً عن الفساد الذي شجّعه القطاع المصرفي وإنْ لم يكن الأخير مََن أوجده.
في مقالات سابقة تمّ تشريح سياسة مصرف لبنان فلا داعي للاسترسال بها بل نؤكّد المسؤولية المباشرة له بمعنى دور القيّمين عليه. فقد برهن طاقم المصرف المركزي إما عن عدم جدارة أو عن تواطؤ، وبالتالي عليه أن يرحل بعد الخضوع لمساءلة ومحاسبة.
لذلك نركّز على القطاع المصرفي الخاص الذي تجب إعادة النظر به. في لبنان عدد المصارف العاملة 71. مقارنة بسيطة مع أكبر دولة في مجلس التعاون الخليجي تفيد أنّ هناك خللاً ما في لبنان. ففي المملكة السعودية عدد المصارف العاملة لا يتجاوز 13 وإذا أضفنا فروع المصارف الأجنبية وهي ليست مؤسسات موظّفة لرأس مال ما في المملكة فيصبح عدد المصارف ما يقارب 30. حجم الناتج الداخلي في المملكة يقارب 650 مليار دولار. أما في لبنان فحجم الناتج الداخلي بحدود 60 مليار دولار (على الأقلّ قبل الأزمة ومع بعض المبالغة في تضخيم الرقم). يصبح السؤال ما هو مبرّر وجود ذلك العدد الكبير من المصارف العاملة في لبنان خاصة أنّ خمسة مصارف تتحكّم بما يوازي 75 بالمئة من الودائع. فماذا تعمل باقي المصارف وكيف تجني أرباحها؟
هذا من جهة. ومن جهة أخرى تحمل المصارف الكبيرة الجزء الأكبر من سندات الخزينة اللبنانية. تراوحت موازنة المصارف في لبنان في حمل سندات الخزينة بين 30 و40 بالمئة من أصولها المالية. وهذا معدّل تركيز غير صحّي في الأصول في سندات خزينة لدولة يعلم الجميع أنها عاجزة عن تسديد تلك الديون فتلجأ إلى الاستدانة لتسديد الديون السابقة وبفوائد مرتفعة. في الحدّ الأدنى برهنت المصارف عن عدم جدارة وقدرة اقتصاديّة وماليّة في توزيع المخاطر عبر التركيز على سندات الخزينة. في الحدّ الأقصى كانت المصارف شريكاً فاعلاً في عملية السطو على ودائع المودعين عبر توظيفها في سندات الخزينة وعلى أموال المكلّفين عبر الاستفادة من الفوائد التي تدفعها الدولة من وارداتها التي هي أموال المكلّفين. إذاً في الحدّ الأدنى غباء وتقصير وفي الحدّ الأقصى لصوصية موصوفة. وفي هذه الأيام تكشف المصارف عن وجهها عبر التخلّف عن تسديد المودعين حقّهم بل إذلالهم لأنّ أصحاب المصارف يعتبرون أنفسهم في حماية من القانون.
كانت المصارف اللبنانية تروّج عن كفاءتها ودورها المفصلي في الاقتصاد اللبناني. و«الاحترافية» لتلك المصارف أمر مشكوك به خاصة أنّ عدداً من المصارف الكبرى اضطر إلى اللجوء لمصرف لبنان فكانت «الهندسات المالية» الشهيرة التي كانت بمثابة تعويم تلك المصارف بسبب إخفاقاتها ومراهناتها الخاطئة في عدد من الأسواق العربية والإقليمية، ما يؤكّد عدم جدارة تلك المصارف. فـ «نجاح» تلك المصارف في الأسواق اللبنانية يعود إلى الحماية التي تتمتع بها تلك المصارف غير أنّ تلك الحماية لم تكن موجودة في الأسواق الخارجية. فرغم كلّ الادّعاءات ما زالت المصارف اللبنانية هامشية مقارنة مع المصارف الإقليمية وخاصة الخليجية فما بالك المصارف الدولية! لم تستطع المصارف اللبنانية أن تكون محرّكاً للاقتصاد اللبناني رغم ادّعاءاتها المعاكسة، ولم تكن يوماً من الأيام لاعباً أساسياً في الأسواق المالية العربية. فلولا الهندسات المالية التي قدّمها مصرف لبنان لما كانت تلك المصارف مستمرّة حتى الآن.
حاكم مصرف لبنان يقول بصراحة إنّ هدف مشروع ضبط حركة الرساميل من لبنان إلى الخارج (أو الكابيتال كونترول) هدفه حماية المصارف كأولوية وليس حماية المودعين. هذا الخيار واضح وإنْ كان يخالف الدستور والقانون الذي يحمي الملكية الخاصة أيّ الودائع التي هي أملاك خاصة. في مطلق الأحوال وبغضّ النظر عما ستقدم عليه الحكومة من إجراءات فإنّ المطلوب، إضافة إلى تغيير شامل في حاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة، حيث الطاقم الجديد لا يجب أن يكون من المصرفيين السابقين، فالمطلوب إعادة النظر في بنية القطاع المصرفي في لبنان من حيث عدد المصارف ومن حيث ملكية المصارف.
ففي ما يتعلّق بعدد المصارف يجب على المصارف أن يكون رأس مالها كافياً. ومستوى الكفاية يختلف من بلد إلى بلد. فرأس المال المصرف يجب أن يكون في الحدّ الأدنى 20 في المئة من إجمالي الودائع بينما اتفاقيات «بازل» تنصّ على أنّ الحدّ الأدنى يجب أن يكون 8 بالمئة، وذلك لتأمين الاستقرار وحماية المودعين. الأزمة المالية في العالم قد تكشف أنّ معدّل 8 بالمئة في قرارات «بازل» قد لا تكون كافية أمام العاصفة المقبلة. ولكن هذا ليس شأننا اليوم. يرتفع ذلك المعدّل في المصارف الصينية، وهي الأولى في العالم، إلى 14،8 بالمئة. سلوك المصارف اللبنانية الملتزمة بقرارات «بازل» برهنت انّ ذلك المستوى من رأس مال المصارف غير كافٍ لمواجهة أزمة فقدان الثقة البنيوية التي أصابت القطاع المصرفي. لا يُلام المودع بل يُلام المصرف ومصرف لبنان الذي قام بحمايته. الرأس المال الفعلي الذي كان يتمتع به القطاع المصرفي في لبنان كان قبل أيّ اعتبار آخر معنوياً أيّ الثقة التي كان يوحي بها (زوراً) بكفاءته وملاءته. بات واضحاً أنّ هذه الثقة مفقودة ولن تعود مع وجود مصرفيين من الطراز الموجود في لبنان.
إذن… ما هو الحلّ الممكن في إعادة الثقة؟ كما أشرنا أعلاه الثقة تعود عبر إعادة بناء القطاع المصرفي من ألف إلى ياء. وهذا البناء يتضمّن إعادة النظر في عدد المصارف وفي ملكيتها. من مفارقات الدهر أننا نرى في الولايات مَن يلفظ الكلمة المحرّمة وهي التأميم. يقول بول كريغ روبرتس، الاقتصادي المعروف وصاحب الكتب والمقالات المميّزة في الاقتصاد والمال، ومساعد وزير الخزينة في عهد رونالد ريغان، وبالتالي هو رجل محافظ الهوى وليس يسارياً كما يمكن وصف أشخاص مثل برني سندرز. يقول روبرتس إنّ الأزمة المالية التي تمرّ بها الولايات المتحدة تتطلّب إجراءات جريئة كالتأميم وإعفاء كافة الديون. أما الاقتصادي والأستاذ المميّز (emeritus professor) مايكل هدسون فيعتبر أنّ ملكية المصارف يجب أن تكون الملك العام وليس حكراً على أقلّية متموّلة. فهو يدعو إلى تملّك الشعب للمصرف (public banking). فالتمركز المالي في الولايات المتحدة حيث خمسة مصارف تتحكّم بحوالي 75 بالمئة من الأصول المالية تشكّل خطراً على الاقتصاد الأميركي والعالمي. فأيّ اهتزاز في أيّ منها يكفي لتسبّب الانهيار المالي عند الجميع. التمركز لا يؤمّن الاستقرار كما يزعم البعض بل يكشف الاقتصاد برمّته إذا ما تعرّض أركان التمركز إلى ضرر.
في لبنان ندعو إلى مزيج من الحلول المذكورة. من جهة ندعو إلى إنشاء مصارف حكومية تتولّى تقديم الخدمات المصرفيّة للقطاعات الإنتاجيّة كالزراعة والصناعة والسياحة والنشاطات التكنولوجية. وفي نظرنا يجب أن تكون هذه المصارف صاحبة الريادة في استقبال الودائع والمدّخرات الوطنية وصاحبة المركز الأوّل في تمويل المشاريع الإنتاجية. والخدمات المصرفية التي تقدّمها تلك المصارف هي الخدمات العادية مع التركيز على إنشاء أقسام تمويل المشاريع بضمانة المشاريع نفسها (project financing) وليس بضمانات ملكية خاصة. فنتائج المشروع نفسه المموّل لفترة متوسطة من ثلاث إلى عشر سنوات تضمن القرض. تقنيات ذلك النوع من التمويل معروفة ومعهودة ويمكن تطويرها حسب الحاجة.
تجربة المصارف الصينية تدلّ على أنّ قطاعاً مصرفياً تقوده الدولة يستطيع أن يحقق النجاحات التي يخفق عن تحقيقها القطاع المصرفي الخاص الذي هدفه الربح الفوري أو القصير الأجل. بينما المصارف الحكومية تحقّق أرباحاً ولكن تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة للبلاد خاصة في بناء البنى التحتية والمرافق العامة والصناعات الاستراتيجية. فوجود المزيج من المصارف الحكومية والمصارف الخاصة يمكن أن يشكّل نموذجاً ناجحاً خاصة بعد الإخفاق الكارثي للمصارف الخاصة في لبنان. الجدير بالذكر أنّ المصارف الحكومية الصينية هي المصارف الأولى في العالم وعددها أربع تأتي وراءها المصارف الغربية فلماذا لا نطمح أن تصبح المصارف الحكومية في لبنان في يوم ما من أهمّ المصارف في الوطن العربي وفي الإقليم؟
كما ندعو إلى تقليص عدد المصارف إلى حوالي 10-12 مصرف أو أقلّ يملكها الجمهور، حيث لا تتجاوز مساهمة المساهمين لكل واحد منهم نسبة يتمّ الاتفاق عليها. أما المودعون الكبار الذين استفادوا من سندات الخزينة على مدى العقود الثلاثة فتتحوّل حقوقهم إلى أسهم من نوع (ب) أيّ لا حق لهم بالتصويت مع مردود مضمون يتمّ الاتفاق عليه.
سيعترض حتماً أصحاب الرساميل المساهمون في المصارف والمودعون الكبار، ولكن نقول لهم إنهم استفادوا على مدى 30 سنة من المال العام عبر سندات الخزينة وأساؤوا الائتمان في إدارة أموال المودعين. وإذا تعثّر الاتفاق فيتمّ تأميم حصص أولئك المساهمين ويتمّ تسديد قيمة أسهمهم بعد 50 سنة ومع فائدة محدودة.
هذه الاقتراحات برسم الحكومة اللبنانية والطاقم السياسي الذي يدعمها. فهل هناك رغبة أولاً وقدرة ثانية على تحمّل تلك المسؤولية؟ هذا ما ستكشفه الأسابيع أو الأشهر المقبلة.
*كاتب سياسي اقتصادي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.