فاعليّة قصيدة الومضة لدى الشاعر أمين الذيب وجماليّة الصورة الشعريّة
نزار حنا الديراني*
قصيدة الومضة هي تعبير عن لحظة انفعاليّة محددة أو وميض لإحساس شعريّ خاطف يمر في المخيلة، فيصطاده الشاعر ويصوغُهُ بصورة شعرية مكثفة محملة بدلالاتٍ كثيرة تثير إحساس القارئ فيتلهف لاصطياد مكنوناتها.
ولعلّ من أهم العوامل التي لعبت دوراً هاماً في نشأتها هو التحول الفكريّ والفنيّ ومتطلبات الحياة الجديدة والمؤثرات الأجنبية كل ذلك مهد الطريق في انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، أو الانتقال من الشعر الذي يُلقى أمام متلقين في مهرجانات شعرية لغاية التوعية، والتنوير، إلى الدعوة إلى قصيدة تقرأ في جو خاص.
يقول الشاعر أمين الذيب في مقدمة كتابه «ومضة» الصادر في بيروت 2020 : «كان لا بدّ من ابتكار زمن فكريّ يرى إلى الحياة والكون والفنّ بنظرة جديدة تستنطق الكون برؤيا أشدّ اتساعاً تتجاوز الخيال السائد إلى تخومٍ تلامس المُنتهى، وتفضّ بكارة المكنون والمكبوت في اللغة والمُخيّلة، والذهاب قصيّاً في خلق شخصيّتنا الأدبيّة بدلالاتها الوجوديّة…».
في مجموعته هذه يحاول الشاعر ابتكار زمنه الفكري بمفردات قليلة في نصوصه هذه وهي تحمل ثقل الدلالات الفكرية المتوالدة من التكثيف دون اللجوء للتصريح بها لما لها من تأثير نفسي نابع من محاولة الشاعر اكتناز الكثير من الدلالات الفكرية ضمن إطار ضيق وكلمات أقل من خلال تجربته القرائية والمعرفية مع الآخرين في منتدى الأدب الوجيز، كل يحاول الإحاطة بكم من الدلالات المكبوتة والتي تتفجّر كقنبلة موقوتة كلما قاربها المتلقي بالقراءة المعمّقة والتوقف عند صورها وهي تغويه الى عالم واسع في كنف جمالية تفاعله مع النصّ فضلاًَ عن أبعادها الفلسفية (في البعض منها)، فجاءت بعض ومضاته وهي تحمل بين طياتها رؤيا فلسفية متكاملة كقوله :
«يا شيخنا
الضوء لا ينبهر بالضوء
الكون قصاصات أحلام
الغيمة سرّ الماء
والتراويح إنشاد الغيب».
وهكذا في نصه الآخر :
«خطيئة الله
نغيب مع الشمس
ولا نُشرِق معها» .
الشاعر في نصيه هذين يتحدث عن تجربة إنسانية شديدة الإيحاء فكل سطر من أسطره يحمل بين طيّاته مساحات كبيرة مسكوت عنها أو متوارية بين السطور ففي نصه الأول.
«الضوء لا ينبهر بالضوء، الكون قصاصات أحلام، الغيمة سرّ الماء».
وفي نصّه الثاني «الشروق والغروب» بمعنى الموت والقيامة، وهو نصّ قصير أراد الشاعر في ومضته هذه أن ينفي فكرة القيامة بثلاثة أسطر قصيرة أو بمفردات لا تتجاوز عدد كلماتها عدد أصابع اليد الواحدة، وعلى المتلقي أن يتأمل ويبحث ويحلّل حتى يصلَ إلى ذروة المتعة الشعرية والتأملية كل حسب مخزونه المعرفي ومنظوره الجمالي .
أبرز ما تميز به الشاعر في تجربة الشعرية، ان رسالته ذات سمة انفعالية مولدة للوظيفة الانتباهية لدى المتلقي وصولاً إلى لحظة الذروة والإدهاش من خلال احتفائها بالخيال المتوقد والحساسية المرهفة، والوحدة العضوية، والصورة الشعرية، وتسعى بشكل حثيث للابتعاد عن الحشو والزيادات، كقوله :
«امرأةٌ عجوز
ترسمُ على نافذتها قمحاً
تأتي العصافير
تأكلُ الماضي بشهيّة
وتموت».
لعلّ أهم ما يخرج به قارئ ومضات أمين الذيب أنها تركّز على ردة فعل القارئ ومدى استجابته مع النصّ الذي يشكّل جملة قراءات ناجمة عن قدرة تأويلية لديه وشد انتباه القارئ من خلال الاهتمام بالمقاربة، والتركيزعلى الجملة القصيرة المكثّفة جداً كقوله :
«قالَ البحرُ
أعرْني يدكَ كي أعبُرَ المُستحيل
بترَ الكون لهفتي
المكان بليد والمرايا انكسار»
إن الانسجام بين محوري الاختيار «البحر والكون» يكشف شعرية خطاب الومضة لدى الشاعر أمين الذيب وهو خطاب يضجّ بالثنائيات أو أكثر فعناصر الصورة لديه تجمع بين أشياء بينها من التقارب والتشابه أكثر بكثير مما بينها من تنافر وتضاد عكس أكثرية شعراء الومضة، وهكذا في نصه الآخر:
«السماء
عيون الفقراء
وحدها
تُمطر».
أيضاً هناك مقاربة وانسجام بين محوري الصورة (السماء التي تمطر والعين التي تدمع).
هذه الجمل المحوّلة من الصور الذهنية إلى الصور الخطيّة توحي أن جدلية الحياة لا تكون إلا من خلال ثنائيات الممكن والمستحيل.
فالومضة شكل من أشكال الانزياح الذي يباغت بها الشاعر المتلقي من خلال التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية غير عادية. فالصورة تكشف عمقها بطريقة لا شعورية، إذ تجعل المرئيَّ روحاً خفية، وتجعل للروح الخفية طبيعةً مرئية كما يقول الناقد محمد المحسن في مقالته المنشورة في الانترنت «قصيدة الومضة.. لدى الشاعرة التونسية نفيسة التريكي: الصمت المقروء» .
ولأن قصيدة الومضة تختزل الموقف والمفردة والشعور كي تعطي للمعنى بعداً مغايراً، وتمنح الصورة روحاً تجعل القارئ يحلّق إلى حيث تشظياتها ليمسك بخيوطها لذا فهي قادرة على التوصيل للمتلقي كل دفقاته الشعرية والشعورية، ضمن تعبير متميّز يحمل الروح والفكرة والشاعرية بكل ألق وإبداع لكونها ترتكز على الشحنة الدافقة والتي من طبيعتها تدهش القارئ كقوله :
«على نافذتي
رسمتُ نهراً
انتظرتُ الماء والعصافير
جاءت امرأة
رسمت وحيها على الضفتين
واستدارت»
أو :
البارحة
كُنتُ طفلاً يعبثُ بحذافير الكون
نأتِ الشمس
كامرأةٍ تركت وهجها بين أصابعي».
نلاحظ أن الشاعر يرتكز في ومضاته هذه على مصادر الجمال الفنّي الذي ينبع بالدرجة الأولى من جمال الصورة التي يرسمها الشاعر والقدرة الإيحائية والصدمة المتولدة .
ففي الومضة الأولى رسم لنا الشاعر نهراً ولكنه بدون ماء، وفي الوقت الذي كان ينتظره وينتظر العصافير جاءت امراة لتقلب الصورة، وفي الومضة الثانية رسم لنا إحلام الطفولة وهو يتأمل من الشمس وهجها… كل ذلك منسكب بأسلوب لا يلامس المباشر، ولا يماشي المعتاد، بل هي ضربات فرشاة متعددة تنتظر من المشاهد / القارئ الربط لتكتمل الصورة.
ها يعني مدى حاجة قصيدة الومضة الى تمكن لغوي قوي وقدرة عالية على ضرب الفرشاة أعني فكرة مختزلة كي تؤهل القارئ عند ربطها التلذذ بصورها المكثفة .
لذا نقول إن قيمة الصورة الشعرية في قصيدة الومضة لدى الشاعر أمين الذيب كغيره من شعراء الومضة هي نوع من الاختزال الرائع والتوافق وهذا يدل على عمق التجربة الشعرية التي يتمتع بها الشاعر وقدرته في الجمع بين كثافة اللغة والصورة الناتجة من التقاط المشاهد اليومية التي يراها الشاعر في الشارع كقوله :
«القمرُ واقعٌ في بحيرة
رسمتُ شراعاً
على ورقة
وانتظرتُ الرياح».
إنها صورة موفقة لما يمرّ به لبنان وتأملات شعبه الذي لا يزال ينتظر رياح التغيير وكذلك :
«لا وسادة للحلم
الشياطين والملائكة على وفاق
كيف أعثر على بقيّة نبي
والريح بعثرت دروب الرمل».
ففي فضاء الصورة تتضخم الأنا الشاعرة للشاعر مقابل زيف الواقع، فتتمرد تمرداً شعرياً؛ لكي يشكّل الشاعر في النهاية نصه الشعري وفق رؤياه ويتنامى شعوره من الموقف الذي يولده القلق تجاه الوضع القائم. ففضاؤه الذي له علاقة متينة بالكيان الحقيقي للذات المسكونة بالقلق يريد أن يزيل عنه ما يسبب له القلق أي كشف المجهول في الذات :
«أمشي
كي لا تنمو على حذائي
طحالب الأشياء
وينضب الماء في دمي
قبل السطوع الأخير»
أو
«كوّرتُ يديَّ
على قمرٍ بقامة الصنوبر
كانت الريح تُذري شغفي
والمطر حَبَلٌ من غير دَنَس»
لا يفكر شاعر الومضة بالخطابية في شعره بل الإيحاء؛ لأن قصيدته لا تقدّم الى متلقٍّ نائم يحتاج الى الحماسة فما يشهده عصرنا من أحداث ساخنة لا تتطلب التطويل الشعري بل الى شحنة ذات كثافة موحية تحمل بين طياتها صوراً معبّرة عن الحال النفسية المتأزمة لدى الشاعر والمتلقي :
«نفد كأسي الأخير
النهر مرصود بضفتيّه
وامرأتي لا زالت نائمة».
فالصورة الومضية لدى الشاعر أمين الذيب تكشف عمقه بطريقة لا شعورية؛ إذ تجعل المرئيَّ روحاً خفية، وتجعل للروح الخفيّة طبيعةً مرئية، فالشاعر لا يقدّم لنا معنى محصوراً بسردية كما لدى غيره من الشعراء فومضاته لم تأت من الشحنة الشعرية المولدة من المفارقة التي تمتاز بها أكثر القصائد الومضية لدى الشعراء الآخرين بل من مقاربة أي صور متقابلة ومنسجمة في تأويلاتها، فإننا كثيراً ما نجد شاعر الومضة يسقط أدوات الربط اللغوي بين أجزاء القصيدة، حتى لتبدو القصيدة في بعض الأحيان أشبه ما تكون بمجموعة من العبارات والجمل المفككة المستقلة، ما لم يجد القارئ الرباط الذي يربط بين هذه الصور أو الجمل المستقلة في كيان واحد شديد التمسّك كقوله:
«مُدَّ يديكَ لرابية خضراء
أطلق عصافير أصابعكَ
كي تورق السماء».
فاليدان والرابية الخضراء والعصافير والسماء هي عناصر منسجمة غير متناقضة وهكذا في نصه الآخر :
«هناك… بعد الأُفق
شجرة تنمو
العصافير تنشد الصباحات
مسافة بين وعيين وومضة»
نجد كل سطر من أسطر نصه يرسم لنا صورة تضفي إشعاعاً على فضاء النصّ النابض بهموم الفرد والجماعة، والحافل بأزمات الإنسان المسكون بمشكلات عصره المختلفة تاركاً انطباعاً في الشعور لا يُمحى، وقائماً على الجمع بين المتقابلات بواسطة تيار من الأحاسيس المركزة.
ولأن قصيدة الومضة هي إيقاع لأوجه مختلفة توصل كلها إلى قيمة واحدة لذا ليست كل قصيدة قصيرة ومضة، فبعض من نصوص مجموعته هذه لا يمكننا اعتبارها قصائد ولا ومضات بل مجرد خواطر، فلم يقدّم الشاعر من خلالها للمتلقي حدثاً ذا تأثير جمالي ولا صورة تهتم بالإيقاع الموسيقي في التشكيل الفنّي رغم كونها تقدم لنا عنصرين متقابلين متشابهين كقوله:
«الشتاء
امرأة تستحم».
جمل كهذه لا تقدم لنا شيء إلا تشبيهاً، يشبّه المرأة بالشتاء وماذا بعد؟
أو :
«الحُب
وصفة وهميّة للخلود»
أو :
«الظلُّ
حقيقة مُطلقة».
جمل كهذه يمكن تسميتها بخواطر لأنّها تخطُرُ ببالِ الشاعر في لحظةٍ واعية أو غير واعية .
فقصيدة الومضة هي التي تجمع بين مجموعة من المشاهد (الصور) المكثّفة والمنفصلة بعضها عن بعض كل الانفصال، يكاد كلّ مشهد فيها أن يقوم بذاته، ولكننا حين نمسك بالرابط ندرك تأويلات وأقنعة الشاعر بمعنى أن هذه المشاهد هي مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة .
وكذلك نض كهذا:
«النوارس هُدُب البحر
الغيوم مياه مُهاجرة
أرصدُ الوقت
بين رؤايً وقهوتي شغف غجري».
يفتقر هو الآخر إلى الكثير من مقوّمات الومضة لكونه لا يطرح لنا إلا جملاً تشبيهية، لأن قصيدة الومضة وكما نوّهنا عنها هي ذات مجموعة من الشحنات النفسية يحاول الشاعر ائتلافها في صورة كلية واحدة، ذات الإشعاع القوي حين تتولد منها إثارة مفاجئة في اللاشعور، وهذا يتطلب من الشاعر وهو يعيش اللحظة الانفعالية فطنةً وذكاءً، وكذلك نباهة من المتلقي كي يتمكّن من القبض على جوهر النص في بناء صورة كلية للقصيدة من خلال الصور الجزئية القصيرة جداً كي يحصل على الفكرة وانطباعً بتكثيف شديد ومتعة، وكما في هذا النص :
«الشمس تبتكر ظلي
وأنا ظل الكون الهارب
من اليقين».
وفي الختام نقول: القصيدةُ الومضية هي التي تتعدّد فيها الأصوات الشعريّة وتحيل إلى بنية جديدة ونسيج وعلامات وإشارات متعدّدة تنطوي ثناياها على علاقات متنوّعة فيها من الإثارة والإدهاش ما يجعلها تثير المتلقّي وتجذبُ انتباهَه، وهذا ما قام به الشاعر أمين الذيب لذا كانت للصورة أهمية استثنائية في نصوصه الومضية لأنها تُلتقط في لحظة انبهار ضوئيّ يكشف جزئيات، وحساسيات ذهنية في غاية الحدة.
قصيدة الومضة أو الأدب الوجيز لدى الشاعر والناقد أمين الذيب هي مجموعة من الضربات أو النقرات تشبه ضربة الفرشاة أو نقرة عصفور أو عزف، كل ضربة ترسم لك لوحة ستجدها متنافرة مع اللوحات الأخرى ما لم تجد مفتاح الربط بين عناصرها كقوله في ومضته هذه:
«في يديه بقايا زمن
على خصرها أيقونة الخصوبة
صاحب الرياح يُغوي النار
فنتوقّد».
هذه الومضة تحمل بين أسطرها عناصر عدة كل عنصر منها أو رمز هي مفردات للصورة (زمن ، أيقونة، صاحب الرياح، النار) مكوّنة لنا لوحات عدة تجدها مبعثرة وما عليك الا ان تبحث عن الرابط الفكري بينها لتكتمل الصورة واللذة وإلا ستجدها مفردات متنافرة. وهكذا الحال في ومضته:
«كلما رسمتكِ في بالي
شجرة
تأتي العصافير الى عبابكِ
نشيدٌ سوريالي
أصمُتُ كي لا تجفل العصافير».
*ملبورن – استراليا.