الوباء والسياسة (2)
سعادة مصطفى أرشيد*
تعرّضت في مقالي السابق إلى الوباء وماذا يمكن له أن يغيّر في هذا العالم، من الأكيد أن تغيّراً جذرياً لا بدّ سيطرأ على أشكال التوحّش والغطرسة التي مارستها ولا تزال الولايات المتحدة الأميركية ومن ورائها الغرب الأوروبي الذي جعله عجزه وتراجعه يبدو أقلّ عدوانية.
يشمل التغيّر العالم بأسره، ففي حين تناصب الولايات المتحدة الصين العداء، ويتهمها وزير خارجيتها بومبيو أنها وروسيا تضللان العالم، في المقابل يرى العالم الصين وروسيا تبديان التزاماً عالياً بسلامة مواطنيهما وبسلامة الإنسان عبر العالم أجمع. روسيا التي تعاني من انخفاض مداخليها بسبب التراجع في الطلب على النفط وانخفاض أسعاره وهي ليست في حال جيدة، تحيل لإيطاليا مليون قناع واقٍ دون مقابل، وترسل طائراتها محمّلة بالأطباء والخبراء والأدوية والمعدّات لمساعدتها في السيطرة على الوباء. الصين بدورها والتي كانت أول من أصيب بالوباء وأول من تصدّى له ترسل بدورها الأطباء والمعدّات والخبراء وفرق الصليب الأحمر الصيني وعلى رأسهم الخبير شوشينغ الذي نجح في إدارة أزمة مدينة ووهان، وهو يقود اليوم الفرق الصينية – الإيطالية لمكافحة الوباء في مقاطعة لمباردي حيث تتكاثف حالات الإصابة، كما تبدي الصين استعدادها لتقديم المساعدة للولايات المتحدة في المجال ذاته ولا تلقي بالاً للتصريحات الأميركية المعادية، كوبا الفقيرة مالاً والغنيّة في الجود والعطاء ترسل إلى دول عديدة فرقها الطبية المشهود لها بالخبرة والمهارة التي كانت خير مَن كافح الإيبولا الأفريقية بالطبع تطوّعاً لا مأجورة.
مجلة فورين بوليسي (FOREIGN POLICY) الفصلية وفي عددها الصادر في 20 آذار/ مارس طرحت سؤالاً على فريق من السياسيين والمفكّرين الاستراتيجيين والجنرالات: كيف سيبدو العالم بعد الكورونا؟ تنوّعت الإجابات ولكنها اتفقت على مجموعة من النقاط والمشاهد في هذا المقال منها:
أولاً: أنّ المنتصر في حرب الكورونا هو مَن سيكتب التاريخ ويحدّد المستقبل.
ثانياً: أنّ الولايات المتحدة والغرب قد فشلا في إدارة العالم أثناء الأزمة، الأمر الذي سيعطي الصين ودول جنوب شرق آسيا دفة قيادة العالم.
ولما كانت التغيّرات الجذرية ستشمل العالم بشرقه وغربه، فما هو الممكن والمتاح ان يتغيّر على صعيد العالم العربي. يبدو أنّ أمام مشرقنا أكثر من فرصة متاحة تلوح في الأفق لإحداث انفراجات أو حلول في بعض الأزمات التي استعصت على الحلّ والانفراج، ولا ينقصها إلا توفر الإرادة السياسية لذلك بعد أن أنضجت التطوّرات المتلاحقة وعلى رأسها الوباء ظروفاً مناسبة، خاصة أنّ الطرق العنيفة التي تمّ اتباعها، قادت وستقود – في حال تواصلت – إلى مزيد من الخسران للجميع على حدّ سواء، الأمر الذي يسمح بالخروج من هذا النفق المعتم بمعادلة لا غالب ولا مغلوب.
البداية في اليمن التي دخلت الحرب عليها عامها السادس منذ أيام، ويزعم الطرف المعتدي أنها حرب يمنية ـ يمنية، وانه يقوم فقط بحربه من أجل دعم الحكومة الشرعية الزائفة لعبد ربه منصور هادي، ويرى كذلك في هذه الحرب امتداداً للحرب غير المباشرة التي أعلنها على إيران، وطالما ادعى السعودي انه سينقل الحرب إلى داخلها وأنه سيقلّم أظافرها ويحول دون تمدّدها في الإقليم، ومع بدء العام السادس نرى انه لم يحصد غير الزوان ولم يجنِ إلا الشوك، فهذه الحرب العبثية التي جعل من وقودها ناس اليمن وحجارتها بيوتهم الآمنة ومدارسهم ومستشفياتهم، قد عادت عليه بالهزيمة والخيبة وأكلاف تجاوزت نصف تريليون دولار، والتمدّد الإيراني لا يزال على تمدّده لا بل يزيد، وأصبح الحوثيون في وضع أقوى وأفضل وتحوّلوا بدورهم من لاعب يمني إلى لاعب إقليمي تصل دوائر نشاطهم إلى ضفاف غزة، عندما أعلن قائدهم عن عرضه لمبادلة أسرى سعوديّين لديه بسجناء فلسطينيين في السجون السعودية. يقيني أنّ نصف تريليون دولار التي أحرقت في هذه الحرب لو أنها استثمرت في نشاطات تنموية واقتصادية في اليمن لأعادته يمناً سعيداً متقدّماً متطوّراً، ولكانت كافية لا لوقف التمدّد الإيراني فقط وإنما لوقف أيّ تمدّد.
منذ أشهر وجه اليمنيون ضربة موجعة لمجمع «أرامكو» عطّلته عن العمل والإنتاج، ومنذ أيام قليلة بدأت صورايخهم البالستية تحوم فوق الرياض، في إشارة يمنية لتوسيع دائرة الاستهداف، وهي بذلك تضرب القلب من جسد الدولة السعودية. إنها فرصة سانحة لوضع حدّ لهذا العبث الدموي أمام جائحة الوباء، وأمام التراجع المريع في الطلب على النفط وأسعاره، فإمكانية الوصول إلى صيغة لا غالب ولا مغلوب من شأنها إخراج الفريقين من المأزق.
في سورية تتقدّم الدولة السورية بعسكرها وحلفائها بشكل متواصل. فالانتصارات التي أحرزها الجيش السوري في مواجهة الأتراك والجماعات المدعومة منهم، وترافقها مع المشروع الداعي لطرد الوجود الأميركي من المنطقة عقب اغتيال الفريق قاسم سليماني، قد بدأت تأخذ أبعاداً جدية، والاتصالات بين دمشق والأكراد المحبطين من الأميركان والخائفين من تركيا ترجح عودتهم إلى أحضان الدولة السورية فيما تنوء أنقرة بتراجعها المستمرّ وبأحمال تتزايد عليها، فأعداؤها بازدياد وحلفاؤها خذلوها، والجماعات المدعومة منها في حالة إحباط، أمام حقيقة أنّ خط النهاية لهذه الحرب قد أصبح معروفاً وأنّ الدولة السورية ستنتصر. جاء الوباء مترافقاً مع التراجع الشديد في سعر صرف الليرة التركية وتضاؤل قيمتها الشرائية، ومع انقطاع السياحة التي تمثل رافداً اقتصادياً مهماً، ومع عجز أصحاب المشاريع عن سداد ديونهم للبنوك، ومع تفاقم مشكلة اللاجئين السوريين الذين كانت تدفع بهم أنقرة إلى أوروبا قبل أزمة الوباء، فأوروبا اليوم أصبحت تتردّد في استقبال السائحين الأثرياء فكيف لها أن تستقبل اللاجئين؟
يوماً بعد يوم، ترتخي تلك الحبال التي كانت تطوق سورية، وقد تتحوّل بالقريب إلى أعمدة دعم الدولة السورية، الأمر الذي بدا واضحاً في إعلان الإمارات عن الاتصال الهاتفي الذي بادر إلى إجرائه ولي عهدها بالرئيس السوري وتأكيده له: «إنّ سورية بلد شقيق، لن نتخلى عنه، ولن نتركه وحيداً في هذه الظروف الدقيقة».
إنها أيضاً فرصة قد لا تتكرّر أمام الرئيس التركي ليخرج من الأرض السورية ويغسل يديه من دماء السوريين، ويحافظ على ماء وجهه وعلى شيء من مصالح بلاده المهدّدة في حال استمرّ في طريقه الحالي.
تعاني فلسطين من الاحتلال الجاثم على صدرها، وتعاني من حالة انقسام سياسي وجغرافي منذ العام 2007، وهو انقسام له أسبابه المتعلقة بالرؤى والبرامج وأسباب داخلية شتى، وقد كان للانقسام من يرعاه فمن جانب داخلي ظهرت على ضفتيه طبقة متنفذة مستفيدة من استمرار هذا الوضع الشاذ، ومن جانب آخر فإنّ قوى خارجية وأولاها الاحتلال وثانيتها داعمو الاحتلال وأصدقاؤه من عرب وغرب وقد وجدوا أنّ أكثر ما يضعف الحالة الفلسطينية هو الانقسام الذي يجب أن يستمرّ ويتعمّق، ولجأت تلك القوى إلى حدّ التهديد بقطع المساعدات وبإجراءات عقابية في حال حدوث مصالحة.
في الأيام الماضية، استطاع بن يامين نتنياهو بدهائه وقدراته الاستثنائية، على تفتيت خصومه وشرذمتهم والبقاء في رئاسة الحكومة، وسقط رهان كلّ من اعتقد أنه قد خرج من الحياة السياسية، لقد أثبت تفوّقه على كلّ خصومه، ووضع على هامش السياسة مَن أراد، وجعل أهمّهم يعمل في خدمته، ويبدو أنه يخطط للبقاء في رئاسة الحكومة لسنين طويلة مقبلة – ربما ما دام حياً -. سياساته واضحة ودعمه من أصدقائه في الإدارة الأميركية ثابت على الأقلّ حتى تشرين المقبل، الأمر الذي سيجعله مطلق اليدين لفعل ما يريد ومتى يريد، ولا يكفيه دعم واشنطن فقط وإنما يخدمه الانشغال العالمي بالوباء والانقسام الفلسطيني وحالة الهوان العربي.
أما آن للفلسطينيين والحال كذلك في كلّ من رام الله وغزة أن يتجاوزوا خلافاتهم وأن يتوحّدوا في وقت تمرّ فيه المسألة الفلسطينية في وضع دقيق وفي زمن حرج، يدعو الكلّ الفلسطيني لتدارك مخاطر المرحلة، في ظلّ الوباء ومخاطر التغوّل غير المسبوق لنتنياهو القوي، الذي لن يعطي شيئاً… هل تتوافر الإرادة؟ وهل تتفوّق إرادة الفلسطيني على الضغوط؟ هذا هو السؤال…
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الضفة الغربيّة.