كورونا وحرب الإشاعات… بين الحقيقة والتضليل
} أمجد إسماعيل الآغا
لطالما كانت الحقائق الموضوعية المُتعلقة بأيّ حدث عالمي، تبدو أقلّ تأثيراً في بلورة الرأي العام، في مقابل الشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية، حتى أصبحت ثنائيات الصدق والكذب، والحقيقة والوهم، والتحليل المنطقي والشخصي، والرأي الواحد والآراء المتعدّدة، بوابة لتساؤلات كثيرة تؤطر أيّ حدث، لتغدو ضمن ذلك معركة الوعي والإدراك معضلة كبيرة، تدور في رحاها أراء وسيناريوات وتساؤلات متعددة؛ من هذا المنطلق تبرز معادلة يصعب في مكان ما تفنيد جُزئياتها، ويبقى الهمّ الأكبر التمييز بين الوعي والوهم…
ففي زمن فيروس كورونا فإنّ المعطيات المرافقة لهذا الوباء، تبدو جلية وواضحة في إطار مواجهته والحدّ من انتشاره، لكن في مقابل هذا الزمن الذي طغى عليه فيروس كورونا، هناك حرب أخطر باتت تُشكل تهديداً حقيقياً ومانعاً لمواجهة هذا الفيروس، فـ حرب الإشاعات التي تمحورت حول فيروس كورونا، طغت بمجملها على الكثير من آليات مواجهة الوباء، خاصة أنّ ما يتمّ تداوله من تحليلات غير منطقية، وربطها بنتائج لا أساس لها من الصحة، فضلاً عن حالة التفسيرات الإيمانية الخارقة لـ فيروس كورونا، حتى أصبح واضحاً أن لا شيء يُعادل سرعة انتشار الوباء، سوى سرعة انتشار الإشاعات والأخبار المزيفة، التي تحيد بمتابعي يوميات كورونا، عن بلوغ الوعي المطلوب بمخاطر تلك الأوبئة وطريقة التعامل معها، فأصحبت بذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد على القصّ واللصق والاستعانة بفيديوات وتصريحات قديمة، وربطها في سياق تطورات فيروس كورونا وانتشاره، صورة مُحكمة لخلق نظريات يسهل تصديقها لدى لكثيرين.
في شأن كورونا اليوم من الضروري أن تقوم وسائل الإعلام الدولية بمواكبة فيروس كورونا على نحو موضوعي، أيّ إنّ هذ الفيروس هو من يُحدّد أجندة الإعلام في الوقت الراهن وليس العكس. فالحقائق التي فرضها كورونا ترتبط بمدى قوّته وسرعة انتشاره، لكن العديد من وسائل الإعلام أظهرت الأمر ضمن إطار الخطر المُرعب والمُحبط في آن معاً، فهي بشكل أو بآخر ترتبط بالقرارات السياسية التي تُفرض عليها من النظام السياسي، في وقت من المفترض أن تقوم هذه الوسائل بإنقاذ الأرواح عبر عدم تضخيم هذا الفيروس، ووقف العبث السياسي وأصحاب المصالح، فهما يقفان حجر عثرة في قيام الإعلام بدوره الإيجابي، إذ من الضروري أن يكون الوعي العام بمخاطر الأوبئة هو العنوان الرئيسي، مع الابتعاد عن التهويل والاستفادة من تجارب سابقة في التعامل مع الأوبئة، عطفاً على التركيز حيال تبسيط وإيصال المفاهيم العلمية والحقائق الموضوعية المرافقة لـ فيروس كورونا، إلى عموم المُتابعين، وبذلك يتشكل لديهم الوعي العام في مواجهة المعلومات المُضللة في زمن كورونا، ليكون خط الدفاع الأول ضدّ أيّ شائعات تواكب انتشار الفيروس، هو وعي المتلقي وقدرته على تلقي المعلومات الصحيحة والتمييز بين الإشاعة والحقيقة، في وقت بات فيه خطر الإشاعات لا يقلّ خطورة عن الفيروسات.
لا يُمكننا إنكار أنّ وباء كورونا أصبح قضية أساسية لدى الكثيرين، حتى أنه طغى وبشكل كامل على مُجمل العناوين السياسية والاقتصادية، وبات القضية الأساسية لوسائل الإعلام الدولية، بيد أنه من الممكن طرح ملاحظات وإبداء تفسيرات لما يجري ويدور بشأن تفاعل وسائل الإعلام مع هذا الوباء، فضخامة الحدث وانتشار الوباء شكّلا تحدياً لمجمل النظريات الإعلامية، فالإعلام باعتباره أهمّ أدوات الصراعات الدولية، بات يسير في نسق التضليل وبث الشائعات تنفيذاً لسياسة بعض الدول، فوفقاً لنظرية دوامة الصمت Spiral of Silence Theory، فإنّ هناك توظيفاً سياسياً منفلتاً لوسائل الإعلام في إطار هذه النظرية، التي تنطلق من فكرة أنّ وسائل الإعلام تمثل المصدر الأول للمعلومات في المجتمع، وتعكس الرأي الشائع أو المُجمع عليه، أيّ ما يتصوره الناس على أنه “الرأي السائد” في زمن معين تجاه قضية معينة.
وتشير مُعطيات هذه النظرية إلى أنه كلما تبنّت وسائل الإعلام اتجاهاً ثابتاً ومتسقاً من إحدى القضايا لبعض الوقت، فإنّ الرأي العام يتحرك في اتجاه وسائل الإعلام نفسها. أيّ إنّ الأهمية الفعلية للحدث لا تضع أجندة وسائل الإعلام بل يتمّ توجيه الرأي العام ربما قسراً نحو وجهة بعينها تقف من ورائها مصالح سياسية واقتصادية.
في جانب آخر، ليس من السهولة التمييز بين ما هو حقيقي ومُضلل، وتحديداً في عالمنا العربي حيث الكثيرين لا يجيدون التعامل مع اللغات الأجنبية، نتيجة لذلك يُصبح الاعتماد على الترجمة مصدراً لتسلل المروجين للإشاعات. ويُدرك المروّجون أنّ معظم الناس لا يملكون القدرة أو الحافز للتحقق من مصدرها، لذلك فهم يتعمّدون الاستعانة بكثافة بالمصادر الأجنبية، للإيهام بأهمية ما يُطرح ويتمّ تسويقه، ولا يوجد شيء يمنعهم من فبركة الترجمات وقول ما لم يرد على لسان المتحدثين.
في هذا الإطار، بإمكان أيّ شخص تصله إشاعة تتعلق بفيروس كورونا، اللجوء إلى الشكّ والتريّث قبل أن يقوم بإرسالها إلى غيره أو الترويج لها بأية طريقة كانت. بمعنى آخر يستطيع أيّ شخص أن يأخذ ما يشاء من الاحتياطات قبل أن يجعل من نفسه فريسة سهلة لمروجي الإشاعات.
انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في رفع درجة الوعي الصحي إلى حدّ كبير بالأمراض المنتشرة عالمياً، وكيفية الوقاية منها، والتعامل معها، إلا أنها في الجانب الآخر أثارت البلبلة، وحرب الإشاعات التي لا تتوقف سواء في ما يتعلق بالوفيات، أو سرعة انتشار المرض ومدى خطورته، حتى أصبح الإنسان لا يأمن حتى في بيته ومع أسرته.
ومع زيادة هلع الناس من هذا المرض، يتمّ تجاهل نسبة الشفاء منه والتي وصلت عالمياً إلى أكثر من 80%، وأنّ معظم الذين تتدهور حالتهم الصحية هم من كبار السن الذين يعانون في الأصل أمراضاً مزمنة، وأنّ 85% من الحالات المصابة في العالم لا تحتاج إلى مستشفى كما أعلنت ذلك منظمة الصحة العالمية، وإحصائياً هناك أمراض أكثر فتكاً بالإنسان من هذا المرض الغامض، مثل أمراض السرطان والقلب.
ولعلّ ما جعل الكثيرين يدخلون في دوامة الخوف والهلع جراء هذا الفيروس، طريقة التركيز الإعلامي وهوس وسائل التواصل الاجتماعي، بنقل أرقام المصابين به، دون التأكد من حقيقة الأرقام، حتى أنّ البعض قام بترويج أخبار وفيديوات عن كورونا، تنقلها شبكات إعلامية مرتبطة بسياسات دولية خاصة، وقد دأبت مثل هذه الشبكات على الترويج لفيديوات ونشرها بكثافة، بُغية إيصال ما يريدون ايصاله، لزيادة الخوف والهلع ضمن صفوف المُتلقين.
قد يعتبر البعض أنّ هذا النوع من الإشاعات، ليس أمراً خطيراً، وأنّ هذه الشائعات سُرعان ما تتحوّل إلى دعابة، أو أن يتمّ نسيانها في غمرة الحدث. لكن الحقائق توثق خلاف ذلك. ففي تقرير نشرته “بلومبيرغ”، أوضحت فيه أنّ هناك مخاوف جدية من أنّ ما ينشر حول فيروس كورونا قد يؤدّي إلى حدوث انقسام بين المجتمعات.
وتطرّق التقرير إلى الأنباء التي تفيد بتزايد جرائم الكراهية في الولايات المتحدة ضدّ الأميركيين من أصل آسيوي والآسيويين بصورة عامة، بسبب ربط فيروس كورونا بالصين أو تسميته بالفيروس الصيني.
وينقل التقرير عن أحد المسؤولين في مؤسسة تُعنى برصد جرائم الكراهية ضدّ الآسيويين “إيشيان أميركان أدفانسينغ جاستيس” قوله إنه قبل انتشار كورونا كانت تصل المؤسسة شكوى واحدة تقريباً كلّ أسبوع، بينما وصل الرقم حالياً إلى ثلاث أو أربع شكاوى في الأسبوع.
كما يؤكد التقرير أنّ الأمر لا يقتصر على الولايات المتحدة فقط. ففي بريطانيا هناك ارتفاع حاد لجرائم الكراهية ضدّ الآسيويين. وكذلك الأمر في أثيوبيا، حيث طالبت الحكومة مواطنيها بالكفّ عن مهاجمة الأجانب البيض والآسيويين.
في ذات الإطار، هناك جانب بريء لنشر الإشاعات، وهو يتمّ بدافع الدعابة والمزاح، لخلق أجواء تخفف عن الناس وطأة الوباء والآثار المترتبة عليه. لكن هناك جانباً آخر لا يتعلق بالدعابة، وإنما هو امتداد لتصفية الحسابات السياسية بين الدول والحكومات. فهو يتمّ بتنظيم وتمويل من أجهزة الدعاية والمخابرات في هذه الدول بهدف الابتزاز أو تشويه السمعة أو تحقيق أغراض سياسية معينة. ولعلّ من يتابع ما ينشر على بعض وسائل الإعلام الصينية والروسية والإيرانية والأميركية والعربية هذه الأيام، يدرك بوضوح أنّ حرب الإشاعات ما هي إلا استمرار للحرب التقليدية، ولكن بوسائل أخرى، وأنّ فيروس كورونا يستخدم هنا كوسيلة، لركوب موجة مخاوف الناس، من أجل حشد المواقف وتوجيه الرأي العام وممارسة الضغوط وأحياناً التضليل والحط من شأن الخصوم.
في المحصلة، دائماً ما كانت الإشاعات تتراوح في أطر الحقيقة والتضليل، وبالتالي فإنّ هذا الأمر لن ولم يتوقف عن فيروس كورونا، فحرب الإشاعات كانت وستظلّ موجودة، لأنها أساساً جزء مهم من وسائل التأثير على وعي الناس. من هنا؛ من الضروري العناية بنشر الوعي العام وتحديداً في زمن الأوبئة، لتشكيل جبهة قوامها الوعي والإدراك، في مواجهة الشائعات المُضللة والبعيدة كلّ البعد عن الحقيقة، بهذا فقط يُمكن تجاوز مرحلة كورونا، مع الاستفادة الحتمية في المستقبل من ظهور أيّ أوبئة أخرى.