نظام عالمي جديد يتسلّل من سموم «الكورونا»
} د.وفيق إبراهيم
تواصل جائحة الكورونا الفتك بالإنسانية غير مبالية بحدود سياسية وأنظمة تسلح متطورة أو معادلات قطبية تسيطر على العالم باسره وتقف عاجزة امام هذا الوباء.
وحده وزير الخارجية الاميركي السابق الاستراتيجي والاكاديمي هنري كيسنجر أدرك خطورة التداعيات، داعياً إلى إنقاذ النظام الليبرالي العالمي من خلال حركتين كشفت خبث مراميه: الاولى داخلية اميركية، لإزالة كل الخلافات بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي وإعادة إنتاج «مشروع وطني أميركي» يعاود التحرك عالمياً من خلال التعاون مع كل البلدان لمجابهة الكورونا… عازياً الأسباب الى عالمية هذه الجائحة صحياً، وأثرها التدميري على الاقتصاد والثقافة والسياسة وعلى العالم بأسره.
هنا يظهر كيسنجر مهندس الحرب الباردة والانفتاح الأميركي على الصين منذ السبعينيات، عميقاً عندما يضع اقتراحاً من نقطتين، يحتويان في الظاهر على أبعاد إنسانية، انما من خلال استمرارية القطبية الاحادية الاميركية، السيئة الذكر.
ولأنه يعرف أن «السلاح» وقوة الاقتصاد والقواعد العسكرية، لا قيمة لها امام وباء يخترق الحدود والهواء والاجواء والأقمشة والمياه والطعام، ولا يتأثر بحروب عسكرية او اجتياحات، فجاءت اقتراحاته على اساس ابتكار وحدة وطنية اميركية داخلية، أي إعادة إنتاج سياسة اميركية داخلية، أي إعادة إنتاج سياسة اميركية، شبيهة بالمشروع الاميركي في الحرب العالمية الثانية انما من دون سلاح ومن طريق اللقاحات والعلاجات، فمشروع الحرب الأميركية على اليابان والمانيا انتهى في 1945 بسيطرة عسكرية أميركية، تحولت هيمنة استراتيجية وجيوبولتيكية على زوايا الأرض بكامل مواردها الاقتصادية مع إمساك بالمحاور العالمية الاساسية.
ما يبين مدى حرص كيسنجر على استمرار النظام الليبرالي بقوته الأميركية، من خلال اميركا موحدة تمسك بكل أساليب مكافحة كورونا بما يسميه كيسنجر تعاوناً عالمياً، سرعان ما يتبين انه استغلال اميركي للجهود العالمية في ميادين مكافحة هذا الوباء، من خلال هيمنة الدور الاميركي الأكبر وهكذا يحافظ العزيز هنري على نظامه الليبرالي «العزيز» عليه وقطبية «اميركته» التي عمل طويلاً من اجلها، ويبقى «العالم» مأسوراً داخل «الجينز» الأميركي لمراحل جديدة.
لا بدّ هنا من الاتفاق مع كيسنجر على عالمية الوباء واستحالة مجابهته داخل حدود الأوطان، واختلافه ايضاً عن الحرب العالمية الثانية بأن لا قيمة للتفوق العسكري في مجابهته، وسبق لمثل هذا التفوق أن أدى لهيمنة اميركية على العالم بعد قصف نووي اميركي على اليابان في 1945 ونجاح روسي لافت في طرد الألمان من أراضيهم وتمكنهم من اقتحام المانيا نفسها بعد طردهم لها أيضاً من كامل اوروبا الشرقية.
هذا غير ممكن حالياً مع كورونا، فالانتصارات العسكرية لا تمنعه من العدوى والانتشار بين المنتصرين والمهزومين في آن معاً. ولا تخفف من حجم التراجعات الاقتصادية الكبيرة جداً وبالتالي النفوذ السياسي حتى أن الهمبرغر والجينز والافلام الاميركية والإعلام… تصبح كلها أدوات تاريخية غير معاصرة.
ما يتطلب جهداً عالمياً «فعلياً» للتصدي للجائحة، وتداعياتها وذلك لخدمة الإنسانية وليس لمجرد التجديد للقطبية الأميركية، وكيف يمكن لبلد مثل الولايات المتحدة ان يؤتمن وهو الذي يمنع الدواء والطعام والمواد اللازمة للعيش بحصار إيران وسورية وفنزويلا وكوبا واليمن محجماً العراق ومؤدباً روسيا والصين بعقوبات موضعية، وكذلك كوريا الشمالية، أهذه دولة انسانية تلك التي تمنع عن هذه الدول ما يُعزّز من مناعتها امام كورونا؟
وهل يمكن نسيان ملايين القتلى الذين سقطوا بنيران اميركية في اميركا «الهنود الحمر» والجنوبية واليابان والصين وكوريا وفييتنام والشرق الأوسط واوروبا؟
لعل هذه الأدلة التاريخية تحفز العالم على التأسيس لنظام عالمي جديد.. يجد نفسه مضطراً للعودة الى التكافؤ في العلاقات تحت ضغط تعددية قطبية مرتقبة، ينتج من تعدديتها استقرار عالمي مفيد أو أقل سوءاً.
لكن هذا المشروع غير قابل للتطبيق إلا بقيام محور روسي صيني ايراني بوسعه التمدد ليضم محاور أوسع من اوروبيين متمردين وقوى متضررة في الشرق الأوسط وكندا واليابان، لكن الصين لا تزال مسكونة بضرورة الربط بين الترويج لسلعها وبين إرجاء مجابهة الأميركيين، وهذا ما يعرفه البيت الأبيض فيستعمله لإعادة ترميم قطبيته.
إلا ان العناد الاميركي على النهج الذي يريده كيسنجر للإمساك مجدداً بالعالم، يعزز بدوره من تقارب عميق بين الصين وروسيا وإيران وسورية ودول البريكس ومنظمة شانغهاي. بما يمكن اعتباره استيلاداً لقطبيات متعددة تستفيد من الجمود الاقتصادي العالمي المتوقع لسنين طويلة بعد انتهاء أزمة كورونا.
هناك إذاً اختلاف بين الحروب وكورونا، في مسألة الحسم، فالحروب تنتج عادة منتصراً ومهزوماً، لكن كل الناس مع كورونا مهزومة، بالتساوي.
وفيما الحروب تؤدي الى تحالفات مؤقتة، يفرض كورونا تعاوناً عالمياً واسعاً، في كل زاوية من زوايا الأرض بسبب قابليته للعودة الى الانتشار والقتل في غمضة عين، اما النقطة الجديدة فهي أن الحروب تؤسس بسرعة لسيطرة الغالب على الاقتصاد العالمي فإن مكافحة كورونا تنتج من جهتها تدهوراً اقتصادياً عند كل الدول ولا يمكن لواحد من البلدان المنتصرة او المهزومة الانطلاق اقتصاديا إلا بالتعاون الدولي المتكافئ.
هذا إذا هو وقت تدمير القطبية الاميركية ورفع كابوسها عن مئات من الدول تنهب اقتصاداتها ونزواتها وتسيطر عليها.
فهل هذا ممكن فقط في إطار تعاون دولي او محوري او الاثنين معاً لمكافحة جائحة العصر مع تعاون اقتصادي ـ ثقافي ـ سياسي بين محاور متساندة لا متنافسة، للتعويض عن الأضرار الكبيرة التي يخلفها الوباء على قاعدة لإلغاء نظام العولمة، بابعاده الأميركية الاحتكارية وتأسيس نظام عولمة جديد، لا يستند الى هيمنة الدول الكبرى على الصغرى وانما في اطار من المساواة القائمة على فسح المجال لكل القوى مهما تباينت احجامها في الاستيراد والتصدير وإلغاء مبدأ السيطرة للأقوى ولمصلحة العودة الى القانون الدولي، فقط لحل النزاعات.