سيادة الدولة والسفارة العميقة
} شوقي عواضة
يبدو أنّ إدارة ترامب اعتادت على التدخل في الشؤون اللبنانية وهتك سيادته لتفرض إملاءتها على بعض السياسيين اللبنانيين. فبعد عملية القرصنة التي قامت بها عصابات السفارة الأميركية في بيروت في آذار الماضي من خلال عملية تهريب العميل الإسرئيلي (جزار الخيام) عامر الفاخوري عبر طوافة عسكرية أميركية نقلته من السفارة في عوكر التي شكلت هتكاً واضحاً لسيادة لبنان واستقلاله وانتهاكاً واضحاً للقضاء اللبناني الذي كان قد أصدر قراراً بمنع سفر العميل الفاخوري، لكن بالرغم من ذلك ضربت الإدارة الأميركية كلّ القوانين والأعراف عرض الحائط.
اليوم وبعد أقلّ من شهر على عملية القرصنة تصرّ الإدارة الأميركية على انتهاك سيادة لبنان من خلال التدخل المباشر والمدروس والمنظم، والذي لن يكون آخره ما أعلن عنه عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله قبل أيام. حيث أشار الى تدخلات السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا التي جالت على بعض المسؤولين الرسميين حاملة رسالة واضحة وفي قمة الوقاحة من البيت الأبيض تحمل توصية وتزكية باسم أحد نواب حاكم مصرف لبنان مطالبة بتعيينه من ضمن «حصتها» في إدارة الأمور المالية والنقدية في لبنان. انتهاك واضح وصريح أكده المتحدث باسم السفارة الأميركية في بيروت كايسي بونفيلد مؤكداً أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي (شريك لبنان) وصديق له من الطبيعي أن تقدّم له النصائح بشأن كفاءات موثوق بها. تصريح يحمل الكثير من الدلالات الخطيرة والمؤشرات التي تجاوزت فيها إدارة ترامب الخطوط الحمراء في التعاطي الديبلوماسي مع لبنان ويحمل بكلّ وضوح تبنياً أميركياً معلناً لاستكمال وتشديد الحصار على المقاومة ومواجهتها بالنيابة عن الكيان الصهيوني من داخل لبنان. وهذا يؤكد ما أشرنا إليه سابقاً عن خطورة العميل عامر الفاخوري ومهماته التي حملها إلى لبنان والتي أفشلت دون ان تعرف أو يكشف عنها بسبب عدم خضوعه للتحقيق بعد توقيفه.
اليوم تعاود إدارة ترامب الكرة بوجه ديبلوماسي وبلباس آخر، تبدي من خلاله الولايات المتحدة حرصها على لبنان في حين أنّ ما تسعى لتحقيقه من خلال تدخلاتها لا سيما في ملف نواب حاكم مصرف لبنان يكشف أنّ إدارة ترامب اتخذت قراراً برفع مستوى جهوزيتها لتنفيذ سيناريو جديد من خلال تثبيت عملائها علناً وزرعهم في مراكز حساسة في الدولة من أجل السيطرة على مفاصل الدولة في لبنان أو العمل على التحكّم بالقرارات الهامة والمصيرية والسيادية للدولة وعلى كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهي عملية تشبه إلى حدّ ما السيناريو العراقي الذي أرادت فيه إدارة البيت الأبيض فرض عدنان الزرفي رئيساً للحكومة بالرغم من رفض القوى والكتل السياسية الكبرى لترشيحه. أما في لبنان فكانت أولى عمليات الردّ على تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب تهريب العميل عامر الفاخوري لإظهار عجز الحكومة وإسقاطها سيادياً بالرغم مما تبذله من جهود جبارة بإمكانياتها المتواضعة لمواجهة أعداء الخارج وخصوم الداخل في ظلّ غزو فيروس كورونا. وما جولة السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا إلا إعلان وقح على الانتقال إلى مرحلة المواجهة التي ستحاول فيها الولايات المتحدة التي تدّعي الشراكة مع لبنان ان تضع يدها على ملف النفط وتشدّد الحصار الاقتصادي أكثر من خلال فرض مرشحها محمد بعاصيري الذي شغل منصب النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان وأمين سر هيئة التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال إضافة إلى توليه الإشراف على تصفية بنك الجمال في أيلول من العام الماضي. وبالتالي فإنّ تسميته من قبل السفارة الأميركية لتعيينه مرة ثانية نائباً لحاكم مصرف لبنان يؤكد أهميته بالنسبة إليهم لا سيما بعد ارتفاع نسبة أسماء الشخصيات اللبنانية الاغترابية ورجال الأعمال الذين وضعتهم إدارة ترامب على قوائم الإرهاب والحظر الاقتصادي والتجاري من أجل تجفيف المصادر المالية للمقاومة ووضع رقابة أميركية لرصد كلّ شاردة وواردة حتى في كلّ العمليات المالية ومنها الملف الأهمّ بالنسبة إلى الأميركيين والإسرائيليين وهو النفط، الذي تسارع إدارة ترامب لوضع يدها عليه.
إزاء ذلك فإننا أمام مرحلة جديدة من المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية التي ترى لبنان شريكاً في المال والنفط والغاز شريكاً تريد الهيمنة عليه وكسر سطوته وليس شريكاً في مواجهة الكيان الصهيوني الذي لا زال يحتلّ جزءاً من أراضيه. وفي كلا الحالتين فإنّ لبنان سيبقى الشريك الخاسر الذي لن يربح ولن ينتصر إذا لم يضع حداً لتلك الانتهاكات الأميركية التي تشكل خطراً أكبر على لبنان من الانتهاكات «الإسرائيلية».