ثقافة وفنون

عبد الرحمن أبو القاسم… 
فارس هويّته مكتوبة على جبينه!

} طلال مرتضى*

توقفوا.. توقفوا يا مَن تحملون النعش.. توقفوا!

ثمة دين لي عند صاحبه، هذا الذي تحملونه على أكتافكم لم يبرّ بوعده لي ولم يصدق حبيبته الوعد.

قال لي مرة: أنا على قيد انتظارك.. وكم أحنّ لقصائدك البدويّة.. لا تتأخر كي نفك معاً رهن العناقات القديمة.

ها هو بين أيديكم وقد حزم عدة سفره وهو يدرك بأنني لن أعود مرة أخرى إذ لم يلاقيني هو عند حدود الشوق الأثيم، كيف أعود وأنا لا أحمل جواز سفر؟

ها أنا يا أبو هيثم أقف الآن أمام مرآتي وأتلمّس جبيني، ما من شيء مكتوب عليه، اسمي وعمري ومهنتي، كل هذا مسحته سنوات الغربة اللعينة والبرد.

من ذا الذي سيقنع الحراس القابعين على أهبة النداء بأنني أنا.. أنا ابن هذه الأرض.. أنا ابن الحكايات الشائقة.. ابن الطريق الذي يعرفنا ونعرفه من تعرّجاته ومن تجاعيد وجوهنا.

يا الله.. يا الله.. جعلتني أقهقه كالمعتوه من الوجع.

كيف ولماذا أعود وأنا لا اعرف نفسي.. هل يا ترى لو رجعت إلى المكان ذاته، حيث كان جندي متعب يقف على حاجز الزمن بين دمشق والسويداء ليسأل العابرين نحو لهفتهم عن أسمائهم وهوياتهم، هل سيتذكر ذلك الجندي مرة أخرى اسمي وعمري ومهنتي ليسمح لي بالعبور من دون أوراق؟؟

لا أعتقدلتوّي رأيت وجهي في المرآة فلم أعرف وجهي.

يا الهي ماذا فعلت الآن يا أبا هيثم غير أنك ضيّعتني؟

أذكر ذلك الشاب المتأبط بندقيته ويمد رأسه من نافذة السيارة ليسأل: وين رايحين من الصبح.. أعطوني الهويات؟!

أبو هيثم: أحنا يا ولدي ما عنا هويات ولا بنعرفها حتى نحملها.. أنت بتقرأ؟

الشاب: أي أكيد أقرأ.. وكيف بني أدم مسافر وما معه هوية؟

أبو هيثم: يا ولدي أحنا ناس هوياتنا وجوهنا.. واللي مثلك يتطلع بوجوهنا.. يقرأ بياناتنا ويقول الله معكم.

الشاب: ألله معكم.. هي ما بنتصرف هون.. هويتك يعني هويتك.

كادت نوبة الضحك تخنقني أمام حنق الشاب.

أبو هيثم: أقرأ يا ولدي هويتي من وجهي.. وإذا ما عرفت تقرأ.. نادي لحدا أكبر منك بيعرف يقرأ حتى ما نتأخر.

هل تذكر، عندما أتى الضابط الكبير ومن بعيد وسط حيرة الجندي وهو يرحّب مهللاً: لك مية أهلا وسهلا.. زارتنا البركة.. ما تقول يا عسكري أنك ما عرفت الحاج من وجهه.

وقتها استرق الشاب نظرة من وراء سيّده كي يتأكد مما هو مكتوب على وجه الحاج وبصمت وذهول.

اليومقررت عدم العودة إلى البلاد.

سأبكي كما يبكيك كل الرفاق، سأنوح بكل وجعي كما ينوح الآن مشهور خيزران حزناً ودمعاً ووجعاً بعد أن تركته وحيداً في العراء.

سألوذ إلى عزلتي وصمتي الذي لا يشبه إلا صمت خشبتي مسرح القباني والحمراء بعد أن بدأ يتسلّل إليهم صقيع العزلة المقيت.

لعلي يا صديقي سأجد من يكفكف لي نهر دمعي المالح، ولكن من الذي سيحتضن حزن المدينة العتيقة بعد فراقك لها، ها قد تركتها وحيدة تنتحب خيبتها بك، هل تذكر وأنت تتدحرج على كرسي تغريدة أبو سالم بماذا وعدتها؟

كان هناك ألف شاهد ولا يمكنك المواراة.. قلت:

ـ أنا باقٍ في دمشق كي أدوّن كل الطعنات التي طالت خاصرتها من قبل القريب قبل البعيد ولن أخرج منها إلا نحو وجهتي المنشودة فلسطين.

ما الذي حصل.. كيف استجبت لتلك الأوردة البائسة التي خذلتك كما خذلتنا وهل توقف قلبك عن العشق لتفعل بنا ما فعلت؟

هل أذكرك.. بأمر موجع لعلك تصحو من مغبة غيابك هذا.

هل تذكر عند زيارتك الأولى والأخيرة لك إلى فلسطين بأن حراس المعبر الصهاينة وقتها منعوا شجرة ياسمين شامية لا يتجاوز طولها النصف متر من الدخول إلى أرض فلسطين والتي كانت تحملها فتاة صغيرة لتفي بوعدها لجدّها الشهيد الذي طلب قبل استشهاده أن يزرعوا على قبره ياسمينة شاميّة.

إلى أين أنت ذاهب.. من سيعود ليحرّر تلك الياسمينة وأنت الوحيد العارف بتفاصيل الطريق المؤدية نحو جهة جنوننا حيث قدس الله.

أنا سأتوقف هنا.. لن أنعاك.. ولن أبكيك مجدداً.

كلكم هكذا.. كلكم لا تفون بوعودكم لي. لهذا ومن هذه اللحظة لست ألومك.. قبلك قالها لي عصام العبد الله وهو يقرأ على مسمعي قصيدة جبل عامل: الحرب مطوّلة يا طلال.. روح آمن ولادك وتعا تلاقينا هون ناطرينك.. هون بمقهى الروضة. وما أن أدرت ظهري حتى ركب درب رحيل.حتى أحمد جميل الحسن الذي كان يلم شملنا قبل وأثناء تلك الحرب على حين غفلة سرق نفسه وذاب مثل هدف مقيت سدده الموت في بياض مرمانا.

هذه الليلة سأجمع كل التصاوير القديمة والذكريات كلّها وألقمها نار صمتي، وجعي وعزلتي وخيبتي وغربتي. علني أنسى ولن أنسى.  

*كاتب عربي/ فيينا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى