اشتباك فلسطين المقبل: ليس هناك وسيلة إلا المسير للقتال!
} صادق النابلسي
سير الأحداث الحالية تنسج خيطاً نتابعه جميعاً بأبصارنا. ليس «كورونا» إلا جزءاً من اشتباك عالمي كبير يهدف في مكان ما للوصول ببعض الدول إلى النتيجة المقرّرة. يعكس هذا الأمر مفاد الفكرة القائلة: بأنّ «النتيجة التي تحققها القوة بوسائلها المتنوّعة، ستكون هي النتيجة الملائمة إذا ما تحققت في الواقع». هكذا إذاً. فماذا عن صفقة القرن؟ هل تدّل على منتهى الدهاء والتخطيط والذكاء البشري أم على تعاويذ سحرة «الويكا»؟
في الشكل تبدو الصفقة تبادلاً للهدايا الانتخابية. نتنياهو وترامب بحاجة إلى بعضهما البعض للفوز بفترات رئاسية جديدة. كلاهما يختنق بمشاكله الخاصة ويسعى للهروب منها إلى الأمام ولو كان هذا (الأمام) مغامرة محفوفة بالمخاطر، لكن «الجيوبولتيكا التاريخية» التي تجعل الأساطير مركز تصوراتها، تدفع بأحدهما ليغزو المدى الفلسطيني مبشراً بيهودية الدولة، ومن الثاني ليغزو المدى العالمي مبشراً بنهاية التاريخ!
ينطلق الاثنان من أفقين لتعزيز رؤيتها وروايتهما للمستقبل. الأول مكاني (جغرافي)، والثاني زماني (تاريخي). ينعكس العامل الجغرافي في القدرة على التوسع والتموضع والاستحواذ على المزيد من الأعماق المكانية، أما العامل التاريخي فينعكس في قوة الإنسان وحضوره ودوره في صياغة القيم المستحدثة وخلق الوقائع الجديدة.
وعلى الرغم من كلّ العثرات والإخفاقات في سياسات الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي لكن الاثنين يسعيان لامتلاك الوضعية التي تتيح لأحدهما تصدّر المشهد العالمي والآخر لتصدّر المشهد الإقليمي.
قد يبدو ما تمّ الإعلان عنه في 29 كانون الثاني/ يناير 2020 لحظة تفوّق أميركي إسرائيلي غير مسبوق. أو أنّ التطورات في المنطقة والعالم تقترب بنا أكثر من معادلة جيبولتيكية حتمية صارمة تتمكّن من خلالها الولايات المتحدة الأميركية ومعها الكيان الصهيوني من تحقيق السيطرة العالمية على التاريخ والجغرافيا معاً. ولا شك أنّ الدعاية ساعدت كثيراً في إبراز التآكلات العربية، وموقعية العرب التي إن لم تكن في الهاوية فهي على حافة الهاوية، وكنتيجة منطقية لهذا المسار العربي الرسمي يجب أن يتقلص بصورة نهائية وحاسمة ما دار عليه الصراع منذ مطلع القرن الماضي وتبلّور تحت مسمّى «القضية الفلسطينية». لكن الحقيقة تحجب عمداً التراجعات البنيوية لكلّ من الحليفين على مساحة العالم والمنطقة. «أميركا هذه ليست التي كنّا نعرفها» كما يقول الكاتب الأميركي ديفيد أغناتيوس. ولا «إسرائيل» هي «إسرائيل» التي تعيش هواجس التطويق، والبيئة المحيطة «الغنية بالأسلحة»، والصواريخ الدقيقة و«المتوحشة» لمحور المقاومة، وأزمات الكيان التي تقول عنها الكاتبة ياعيل دايان: «من يقرأ ويتقصّى الحقائق ويتعمّق في الداخل الإسرائيلي ويطّلع على التناقضات والمشاكل الداخلية يدرك ضعف هذا المجتمع… ما بين التصدّع القومي والتصدّع الديني والطائفي والطبقي، تتشكل عوامل انهيار دولة «إسرائيل» في المستقبل».
من الواضح أنّ فكرة الهروب إلى الأمام لدى كلّ من نتنياهو وترامب، تقاطعت مع بيئة الصراع الحالية في المنطقة التي تتميّز بالحركة والتغيّر الشديدين، وأيضاً مع التأسيسات الدينية والاستعمارية التاريخية، وكذلك مع الحسابات الاستراتيجية المتعلقة بالمنافسة العالمية على موارد وثروات الوطن العربي. من هذا المنطلق تعكس الصفقة في جوهرها التصور الأميركي الإسرائيلي لحلّ القضية الفلسطينية. فلا تشير إلى شريك فلسطيني وإنما إلى شريك عربي، ولا هي معروضة للتفاوض وإنما للتطبيق. وهذا التطوّر يشير أولاً، إلى أنّ الحاجة إلى الفلسطينيين في بلورة هذا التصوّر لم تعد ضرورية. وثانياً، إنّ كلّ مسارات التسوية والتفاوض حول قضاياها كاللاجئين والدولة والقدس والحدود والأمن أصبحت من زمن سابق، وحتى مرجعية الأمم المتحدة وقراراتها لم تعد ذا بال. قبل هذه الصفقة يمكن الإشارة إلى أنّ مركب التآمر لحذف فلسطين من الجغرافيا والتاريخ، وإنهاء القضية الفلسطينية كقضية إنسانية عربية إسلامية مرت بصياغات أربع:
الأولى: سياسة الاستعمار البريطاني المتمثلة بتصريح بلفور عام 1917.
الثانية: إجراءات الأمم المتحدة التي أوصت بترسيخ شرعية الاحتلال عبر قرار التقسيم 181.
الثالثة: استخدام القوة الخشنة في محاولات فرض الوقائع الجغرافية الإحلالية عبر النار أعوام 1973 -1967 – 1956 – 1948.
الرابعة: مسارات التسوية التي هدفت إلى تحويل الصراع العربي الإسرائيلي من صراع وجود إلى نزاع حدود.
لقد كان واضحاً من خلال المسارات التفاوضية مع الفلسطينيين أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تكن من الأساس تدعم مبدأ الحلول التوافقية، فقد مرّت على اتفاقية «أوسلو» ما يقارب 27 عاماً من دون نتيجة على الرغم من إجحافها الكبير بحقوق الفلسطينيين، وإنما هدفت إلى أن تحصل (ربيبتها إسرائيل) على ثمار «التسوية» من دون تقديم استحقاقاته، ورسمت إطاراً سياسياً وجغرافياً جديداً تحت مسمّى «الشرق الأوسط الموسع» في سياق عملية يُستعمل فيها عامل الزمن لتغيير معادلة القوة، وإنتاج بنية نفسية وسياسية يقبل فيها العرب بـ (إسرائيل) كياناً طبيعياً في هذه المنطقة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، يصل معها الفلسطينيون إلى حالة اليأس من إمكانية استرداد الأرض التاريخية وحتى أجزاء أساسية منها لبناء دولتهم، بل إنّ الزمن عندما يُستفاد منه، بحسب الرؤية الإسرائيلية، بدرجة قصوى سيدفع الفلسطينيين إلى الإعراض عن كثير من مطالبهم السابقة ومبادئهم التي من أجلها قدّموا الدماء، وحينها سينتزع الصهاينة من الفلسطينيين الاعتراف بشرعية وجودهم. وقد كان ملاحظاً منذ «أوسلو» كيف أنّ إسرائيل كانت تتعمّد شراء الوقت وتصطنع الاتفاق تلو الاتفاق وتخترع البروتوكولات والمذكرات حول أيّ قضية جزئية لتواصل عملية توسعة المستوطنات وشقّ الطرق وتغيير معالم القرى والمدن الفلسطينية وصولاً إلى هذا اليوم الذي لم يعد يحق فيه للفلسطينيين إلا ما هو معروض عليهم من فتات!
إنّ محدّدات هذه الصفقة تاريخياً تنطلق من التالي:
أولاً: الحاجة الملحة لتطهير الأرض من السكان الأصليين عبر عمليات الإبادة والطرد أو العزل الجغرافي. فليس لدى «إسرائيل» سوى معادلة واحدة تقوم على أساس محو الوجود الفلسطيني مادياً ومعنوياً وهوية وانتماء.
ثانياً: العدوان يعتبر خاصية سلوكية أيّ سمة تميّز الشخصية الإسرائيلية العميقة التي تتوثب للعدوان وتتحفز له وتهيّئ مقدّماته ولا تأسف لنتائجه، وعلى امتداد السنين الماضية كانت هذه الشخصية محمية ومدعومة بإطار قانوني إداري يسمح لها بالتعبير عن نفسها حتى لو تخطت كلّ الحدود الأخلاقية والإنسانية والقوانين الدولية.
ثالثاً: السلوك الإسرائيلي في التوّسع وسرقة الأرض وبناء المستوطنات يشير إلى هدف أكثر فساداً من مجرد إرضاء حاجة للأمن، على الرغم من خطورة هذا العامل في السنوات الأخيرة، وهو منع إقامة كيان فلسطيني. فقد كانت المدرسة المتطرفة داخل الكيان تعتبر أنّ مثل هذه «الحلول الانهزاميّة» سوف تعطي شرعية للفلسطينيين ولو كانت نسبيّة ومحدودة، كذلك من شأنها أن تثبّت الوجود الفلسطيني البشري. فما من تفاهم، بحسب تلك المزاعم، إلا وسينتهي بقنبلة ديمغرافية لا يمكن منع انفجارها في المستقبل!
رابعاً: الصفقة انعكاس لفكرة «البقاء للأقوى». فالمعادلة بين دولة متقدمة (إسرائيل) ومجموعة من البشر المتخلفين (الفلسطينيون) تُثبت انتصاراً للمتمدّنين على المتخلفين بفعل الهوة الحضارية التي تفصل بينهما. فقد آن الأوان لإعلان هذا الانتصار الساحق لدولة إسرائيل المتقدّمة على الصعد التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية والصناعية. وهذا الأمر يؤكد صلاحية نظرية داروين البيولوجية التي أكدت على أنّ البقاء للأصلح والأقوى وانطباقها، بحسب المزاعم الإسرائيلية، على الظواهر التاريخية والاجتماعية أيضاً!
خامساً: تشكل الإمكانات التي يمتلكها الكيان الإسرائيلي أمراً هاماً في إطار عملية إدارة الصراع. هو الأقدر والأكفأ على توظيفها واستثمارها بالطريقة التي تحقق له أهدافه.
أي الضغط بها على العدو( العربي أو الفلسطيني) وابتزازه حتى يرضخ بتسليمه لهزيمة لا مفرَّ منها. فالهدف الأقصى هو جعل الأنظمة والجماهير في حالة اقتناع جذرية من أنّ تحدي القوة التي تمثلها إسرائيل مستحيلة!
سادساً: تدني سقف المطالب العربية. فلم يعد النظام الرسمي العربي يريد للفلسطينيين أن يحصلوا حتى على أبسط حقوقهم. عند هذا النظام انتهت القضية. المرحلة هي للتطبيع والتعامل مع الوقائع والموازين بطريقة «واقعية». وهذا ما يريده الصهاينة، أيّ أن يُقرّ العرب أنّ الصراع قد حُسم لصالح «إسرائيل» وأن ليس أمامهم إلا تبني نظرية المنتصرين والاستسلام لترتيبات وإجراءات المرحلة!
لا شك أنّ «صفقة القرن» هي رمز جديد من رموز هزيمة النظام الرسمي العربي، الذي حكم على نفسه بالهزيمة عندما امتنع عن استخدام جزء من وسائله في الوقت الذي صمّم فيه «العدو» على استخدام وسائله كلها.
لكن قوى المقاومة تملك مقاربة مختلفة للمرحلة وإن كانت ضاغطة بتحدياتها. فعلى الرغم من حالة الإحباط التي سرت في نفوس الجماهير من استمرار مسلسل الهزائم والنكبات، فإنّ الضغط يستدعي المزيد من الأمل لا العكس.
ويمكن أن نسجل الملاحظات السريعة التالية:
أولاً: قوى المقاومة تخوض اليوم معركة دفاعية حقيقية على مستوى المنطقة بأسرها، ومع ذلك قد تشتمل أفعالها على حركة هجومية خصوصاً أنّ موقع العدو الدفاعي ليس قوياً جداً بشهادة الخبراء العسكريين الإسرائيليين أنفسهم.
ثانياً: تعمل قوى المقاومة إلى نقل المعركة إلى قلب الضفة الغربية. المكان الذي طلب فيه جمال عبد الناصر من الفلسطينيين «رصاصة واحدة تدوي كلّ يوم» لجعل العدو في حالة استنزاف وهلع وتراجع وجودي.
ثالثاً: الطاقة المعنوية الهائلة التي تمتلكها قوى المقاومة المرتكزة على الإيمان الديني والوطني والقومي. وهي أداة أساسية من أدوات الحرب لا يمكن إغفال أهميتها في حسم الصراع. ولا شك أنّ قوى المقاومة متفوقة في هذا المضمار وهي تحقق من خلال هذه الأداة تناسباً ضرورياً تحتاجه وهي تخوض صراعاً تسعى للفوز به.
رابعاً: جميع خيوط النشاط التاريخي الحضاري مؤدّية إلى الاشتباك. والنشاط هذا لا يهدف إلى تدمير القدرات القتالية للعدو وإنما إلى إزالة العدو من الوجود. إنّ ضخامة هذا التحدي لا يرتبط بسيرورة التطورات والتحولات في المنطقة وإنما تقديراً لنتيجة الاشتباكات المحمومة حالياً على مستوى العالم بأسره.
صفقة القرن تعكس في وجه من وجوهها العملانية مَن استخدم موارده بمهارة وقوة، ومَن تخلّى عن موارده بخفة وسذاجة، فوصل العرب إلى ما وصلوا إليه! لكن في قصتنا، فالأمر لا يُحسب على قاعدة جيش يجابه جيشاً آخر بمجرد اختبار صارم للقوة، وإنما قيمة أيّ فعل تُقاس بالنتائج. أيّ بنتائج الصفقة وتأثيرها الحاسم على مجمل القضية. ويكفي اليوم أن نفحص التأثير الناجم عن تشكل محور المقاومة لنلحظ مخاوف العدو الذي تقترب الهزيمة منه أكثر ما تزايد النشاط العسكري عند هذا المحور ورجحان وقوع الحرب.
هذه المرة نحن لا نعتمد على حاسة سادسة أو مجرد شعور عاطفي زائف بأنّ الصفقة ستموت كما قال الإمام الخامنئي، وإنما على مقدّمات عقلية، وملاحظات منطقية مُشَاهَدة من داخل فلسطين وخارجها، ودلائل متناثرة في فوضى هذا العالم وتناقضاته الواسعة، تدّل على شيء ما. شيء لم نره بعد ولكن متأكدون أنّه آت!