الوطن

«أزمة الودائع» جريمة سرقة موصوفة تستدعي تحرّكاً قضائيّاً فوريّاً المصارف انتهكت اتفاقية «بازل» و2 في المئة من الحسابات المشبوهة عرضة لـ«القصّ»

 

} محمد حميّة

لم يكن انفجار «أزمة الودائع» في المصارف مجرد أخطاء ارتكبتها مجالس المصارف في إدارة الأموال والودائع أو توقعات غير محسوبة أو دراسات غير دقيقة.

صحيح أن أحد أسباب الأزمة هو المشاكل المالية والاقتصادية التي تعاني منها الدولة اللبنانية ومنظومة الفساد والهدر عبر الحكومات المتعاقبة الى جانب الضغوط السياسية والمالية الخارجية، لكن تتبع وملاحقة الوقائع والمعطيات تقود الى جريمة موصوفة ومنظمة لسرقة أموال المودعين وخزينة الدولة اللبنانية بالتكافل والتضامن بين مجموعة من أصحاب المصارف ومصرف لبنان وتغطية قوى سياسية ومالية محلية وخارجية متعددة، بحسب ما تعبر أكثر من جهة سياسية سراً وعلانية ويؤكد هذه الفرضية خبراء اقتصاديون وماليون من انتماءات حزبية ومدارس اقتصادية مختلفة.

جريمة تستوجب من القضاء اللبناني وهيئات الرقابة المالية ووزارة المال إجراء تحقيقات سريعة لكشف مكامن وأسباب الفجوة المالية الفادحة في المصارف وميزانياتها واحتياطاتها وعملية إدارة المخاطر التي اتبعتها على مدى عقود، بمعزل عن سوء الإدارة المالية العامة للدولة من قبل الحكومات السابقة

فبحسب ما يفيد خبراء لـ»البناء» فإن عشرات مليارات الدولارات من أموال المودعين تبخرت في عمليات متلاحقة تنوّعت بين النهب والتحويل والتهريب والبيوعات الوهمية لسندات اليوروبوند للخارج فضلاً عن الهندسات المالية التي أجراها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التي حققت المصارف عبرها مليارات الدولارات.

ولذلك تتمادى المصارف ومنذ 17 تشرين الاول الماضي بعملية تقنين السحوبات وإذلال المودعين على ابواب وشبابيك المصارف التي تحولت مؤخراً بسبب وباء «كورونا» الى «مصارف آلية» تفرغ في الصباح الباكر من المال لتستكمل عملية ابتزاز وإذلال و»تشحيذ» المودعين أموالهم .

 أما أسباب ذلك فمتعددة بحسب الخبراء وهي تهريب وتحويل مبالغ مالية كبيرة من مصارف عدة الى مصارف خارج لبنان والى منازل عدد كبير من السياسيين وأصحاب المصارف قبل عام من أحداث 17 تشرين الماضي وخلالها وبعدها عبر شراء عقارات وأملاك ومنازل في لبنان والخارج، فضلاً عن ان المعلومات تتحدث أن عمليات تهريب جرت لصالح جهات رسمية في دولة أجنبية عظمى

ويشير الخبراء الى أن كل ذلك سبب هذا الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار، فالعملة الأجنبية شحت في مصرف لبنان ولم يعد لديه الكميات الكافية لتمويل الاستيراد إضافة الى أن أصحاب عدد من المصارف أجروا عمليات تحويل الى الخارج وارتفعت الإيداعات في المنازل بسبب الخوف وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي. ما خلق أسعاراً متعددة للدولار: سعر رسمي 1500 ليرة ثبته مصرف لبنان لشراء الفيول والقمح والأدوية، الثاني هامش ربح المصارف 30 في المئة أي 2600 ليرة الذي سمح به «المركزي»، والثالث الصرافين الشرعيين وسوق رابع للصرافين غير الشرعيين فيما خلق التعميم الاخير لمصرف لبنان 49/2006 سوقاً خامسة.

ووفق المعلومات، فإن موضوع «قص الودائع» لا يمكن تحقيقه لأنها لم تعد موجودة في المصارف في الاصل مع اختفاء 60 مليار دولار تقول المصارف انها استثمرتها في «المركزي» عبر سندات مقابل فوائد و»المركزي بدوره تصرف بها لتغطية عجز الخزينة، أما القسم المتبقي من الودائع فمحتجز لدى المصارف كضمانة لها لاستعادة أموالها من «المركزي». ما يعني أن المصارف كانت تشتغل وتُقرِض وتستثمر بأموال المودعين وليس من أرباحها ولا أموال اصحابها ولا من احتياطاتها الخاصة او العامة التي تودعها في «المركزي» وذلك عبر هندسات واستثمارات وإيداعات وسندات وسمسرات وبيوعات. علماً ان المنطق والقانون يفرضان على اصحاب المصارف والمساهمين فيه اعادة اموال المودعين من اموالهم الخاصة اذا تعثرت مصارفهم او افلست عبر عملية تصفية للمصرف من قبل البنك المركزي، علماً انه وبحسب المعلومات ودراسات نشرت منذ أيام فإن المصارف وزعت ارباحاً على مالكيها خلال الثماني سنوات الاخيرة مبلغ 7،3 مليار دولار. فلماذا لا يصار الى انتزاع اموال المودعين من هذه الارباح؟ أما المريب والذي يعزز فرضية المؤامرة الممنهجة فهو تقديم جمعية المصارف ذرائع مختلفة لتفاقم الازمة وربطها بظروف وسياسات آنية وتبجحها بأفضالها المالية الجمّة على اللبنانيين وتقديمها مع اطراف سياسية معارضة حلولاً تآمرية تعجل في انهيار الدولة ومحاصرة الحكومة كدعوة الدولة الى بيع أصولها وممتلكاتها لتغطية العجز وسد الديون وإعطاء ودائع الناس لتتكامل مع دعوات الارتماء بأحضان صندوق النقد وشروطه المالية والسياسية وإبعاد أي حل حكومي يأتي على حساب المصارف وحماتها السياسيين. فيما المصارف ضرب بعرض الحائط اتفاقية «بازل» الدولية للبنوك والودائع التي تنظم ملاءة البنوك في مجال المعاملات الدولية والمخاطر الائتمانية وتفرض شروطاً إئتمانية ومالية على إيداعات واستثمارات وبيوعات المصارف.

ويسأل الخبراء كيف جرت كل هذه العمليات المالية والمصرفية بقرار شخصي من حاكم مصرف لبنان لا سيما خلال السنوات الاخيرة التي كانت فيها ولاية «مجلس الحاكمية» المؤلف من الحاكم ونوابه الاربعة منتهية؟ علماً أن القرار في «المركزي» يُتخذ بالتصويت وليس بقرار منفرد من الحاكم.

 كما يحضر السؤال هنا في اطار مسؤولية الحكومات، دور أجهزة الرقابة كلجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة في «المركزي» ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان؟ فأين كانت كل هذه الهيئات التي كلفت الخزينة ملايين الدولارات كرواتب وتعويضات ومخصصات لأعضائها؟

ومن المعروف أن الوظيفة الأساسية للبنوك المركزية العالمية هي حماية العملات الوطنية للدول عبر عمليات يومية لتبادل الضخ والسحب بين العملة المحلية والعملات الأجنبية للحفاظ على استقرار سعر الصرففإذا كان «المركزي» فشل في هذه الوظيفة فشلاً ذريعاً مع بلوغ الدولار أرقاماً قياسية في تاريخ لبنان، فلماذا لا يتحرك القضاء لمساءلته وإقالته وتعيين مكانه؟ 

فمن المسؤول عن تضييع الأموال والودائع وإعادتها كاملة لأصحابها؟

بحسب مصادر قانونية فإنه وبموجب العقد الموقع بين المودع والمصرف فعلى الأخير إرجاع وديعة المودع كما ينص العقد لجهة المبلغ والمدة الزمنية والفوائد وليس مسؤولية المصرف المركزي الذي تنحصر علاقته مباشرة مع المصارف وليس مع المودع. فإذا كان المودع أودع ماله في المصرف وقام الأخير باستثماره في مصرف لبنان على شكل سندات خزينة فما ذنب المودع؟ وبالتالي على المصرف إيفاء الودائع بأي طريقة وإلا تعرّضه للملاحقة القانونية كجريمة قانونية واضحة لا لبس فيها وعلى المصرف أن يحل مشكلته مع «المركزي» وليس على حساب المودعفلماذا اذاً يصار الى الاقتطاع من الودائع ولماذا تصنيف الودائع بحسب حجمها؟ فما هو معيار التصنيف وكيف السبيل لحل الأزمة؟

الحل بتحقيق قضائي شفاف تتولاه لجنة التحقيق في المصرف المركزي أو تأليف لجنة قضائية مستقلة اذا كانت «هيئة المركزي» مشكوكاً في شفافيتها لكون «الحاكم» هو رئيسها، وتجري تحقيقاً وفقاً لمعيار التدقيق في جميع اصحاب الحسابات ومن يظهر أنه يدخل في دورة الفساد إن كانت الحسابات صغيرة أم كبيرة تكلف «الهيئة الخاصة» لمصرف لبنان برفع السرية المصرفية عنه. فاستعادة الاموال المنهوبة أو مكافحة الفساد لا تحتاج الى قوانين بل على القضاء التحرك عفواً وفقاً للقوانين الحالية وتحتاج الى ارادة سياسية وقرار حكومي. لأن قضم الودائع جريمة وطنية موصوفة هددت الأمن المالي والمصرفي والنقدي  للدولة وليس للمودعين فقط، وهناك حق عام للدولة يختلف عن حقوق المودعين الشخصي، والدولة بمؤسساتها تمثل الحق العام حتى لو سقط الحق الشخصي. على أن يشمل التحقيق كل حسابات موظفي الدولة والذين تعاطوا مع الدولة من مقاولين وغــــيرهم وهؤلاء هم من لـ10 في المئة الذي تحدث عـــنهم رئيـــس الحكومة الذين يشملهم «قص الودائع» أي الحـــسابات المشبوهة التي ربما قصدها دياب في توضيحه أمس أي 2 في المئة من الحسابات، علماً أن المعلومات تؤكد أن اموال هؤلاء المقاولين لا تزال في لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى