على هامش الخطة الماليّة و«الهيركات» «المساواة بين غير المتساوين ليست عدالة»
الدكتور فريد البستاني _
تغلب على التعامل مع القضايا التي يطرحها الوضع المالي مواقف أقرب للعقائدية، بعيداً عن الواقعية القائمة على معالجة ظواهر وحالات، وليست مجرد مواقف تسجل سلباً أو إيجاباً. فإذا كان السؤال عن الموقف من الهيركات، أيّ تطبيق مبدأ حسم نسبة من الودائع، لا نسمع جواباً واقعياً، بل جواب عقائدي يقول نعم لأن هذا لا بدّ منه، وآخر عقائدي مقابل يقول هذا اعتداء على حقوق الناس غير المسموح المساس بها، والجوابان واقعياً ونسبياً صحيحان، ويمكن بعقل علمي جمعهما في موقف واحد، لأنّ المساواة بين غير المتساوين غير عادلة، وكلّ جواب عقائدي يقع في هذه الخطيئة. فالودائع التي لم تتراكم ولم تنمو من المال العام كلياً أو جزئياً، مقدّسة وممنوع المساس بها، والودائع التي نمت على حساب المال العام سواء بصورة غير قانونية وغير شرعية كحال صفقات ناجمة عن أعمال مشبوهة بالفساد والهدر، أو عن مصادر قانونية وغير شرعية كالفوائد المرتفعة بصورة فاحشة لحساب الودائع أو المصارف، أو عائدات مكرّرة لسندات خزينة فاقت عائداتها أصل رأسمالها، أو هندسات مالية حققت مداخيل طائلة للمصارف من المال العام، أو أرباح مبالغ بها بفعل كلّ ذلك حققتها المصارف، فهي سواء كانت ودائع أو تحويلات مصرفية للخارج يجب أن تكون عرضة للمساءلة، وتالياً يجب أن يُستعاد منها الحق المستحق للمال العام، وهذا هو الذي يتحدث عنه الجميع ويسمّيه بالمال المنهوب، ويؤكدون على استعادته، وهو نوع من أنواع «الهيركات» الذي يقولون برفضه بالمطلق.
حال هذا الكلام كحال الكلام عن صندوق النقد الدولي، فالبعض يظنّ أنّ القضية تتعلق بنتائج المواجهة بين منطقين، منطق يقول بالذهاب إلى الصندوق وآخر يرفض، وكل منهما عقائدي قائم على التعميم، بينما السؤال هل الصندوق أصلاً مستعدّ لتقديم المساهمة التي يريدها ويحتاجها لبنان؟ والجواب بالقطع هو بالنفي، لأنّ الفجوة المالية اللبنانية التي تقارب الستين مليار دولار، ليست في حسابات صندوق النقد الدولي لدول أكبر من لبنان، وخططها الاقتصادية مقنعة وقادرة على إعادة الترسمل لردّ مساهمة الصندوق، وسقف الممكن طلبه من الصندوق هو عشرة مليارات دولار، لا تكفي لبنان سوى بشراء وقت سقفه عام إضافي نعود بعده إلى نقطة الصفر، وسيكون بلا جدوى في حلّ الأزمة ما لم تكن لدى لبنان خطة للنهوض وتحقيق الإصلاح، وتشكل المليارات العشرة حجر الزاوية النقدي في إعادة هيكلة القطاع المصرفي والديون، وبالأصل لن يكون ممكناً الحصول على هذه المليارات العشرة من صندوق النقد الدولي من دون هذه الخطة، فالقضية إذن أولاً وأخيراً ليست في أن نقبل أو نرفض التوجه للصندوق، بل بأن تكون لدينا خطة جديرة بالنهوض، نذهب بها لصندوق النقد طلباً لمساهمة تسدّ الفجوة النقدية في خطة متكاملة قادرة على إخراجنا من النفق المظلم، ولأنّ القضية هنا يصير السؤال هو عن ماهية الخطة، وتصبح الأصوات التي تقول إذهبوا إلى الصندوق فارغة وجوفاء وبلا معنى، ومثلها الأصوات التي تقول لا نريد الذهاب إلى الصندوق، لأنّ كلتيهما تصرف الانتباه عن القضية الأهمّ وهي الخطة.
الخطة مطالبة بأن تجيب عن كيفية إزالة حجم من الأعباء المالية يعادل 40 مليار دولار، والطريق المتاح واحد لا بديل عنه، ويقوم على تحقيق تخفيض في قيمة المطلوبات المالية بقيمة عشرين مليار دولار عبر إعادة احتساب الفوائد على الودائع الكبرى وودائع المصارف لدى مصرف لبنان وسندات الدين الداخلي بمفعول رجعي ومن ضمنها الهندسات المالية، قادرة على حسم قرابة عشرين مليار دولار، وهيكلة موجودات الدولة العقارية والاستثمارية ضمن شركات استثمارية تحفظ ملكية الأصول للدولة، وتوضع نسبة من أسهم هذه الشركات للاستبدال بنسبة من سندات الدين بعد تقييم جهات محاسبية دولية لقيمة أسعار الأسهم والسندات، وهذا يمكن أن يوفر حسم سندات دين بقيمة 50 مليار دولار قيمتها السوقية اليوم أقلّ من نصف سعرها، مقابل أسهم بقيمة 25 مليار دولار في شركات تقدّر قيمة أسهمها الاستثمارية بين 50 و100 مليار دولار، حسب سنوات امتياز الاستثمار.
بمثل هذه الخطة، وخطوات عملية موثوقة بإطفاء مساهمة الدولة في كهرباء لبنان، كثقب أسود في العجز المالي، وتوقعات عائدات النفط والغاز، وتنشيط قطاعات الإنتاج وتقديم الحوافز لها، يمكن التقدّم لصندوق النقد الدولي بما يرضي دعاة الذهاب للصندوق، ويرضي الذين يشترطون عدم الخضوع لوصفات مسبقة يرفضونها.
المشكلة هي أننا بعد كلام كثير عن الحاجة إلى الخطة، لم نضع يدنا على خطة بعد.
*نائب في المجلس النيابيّ.