الكورونا الإنترنتيّة
البروفسور كلود عطية*
ساهم انتشار «فايروس كورونا» في تعزيز قوة فايروس آخر على شكل دائرة كونيّة يدور في فلكها المستخدم المادي بعيداً عن كلّ العناصر الروحية والفلسفية الإنسانية التي تعطي المعنى الحقيقي للإنسان، وتعطيه الحق الشرعي بضبط الإيقاع التواصلي بين البشر، وضبط الحدود الجغرافية التي تفرّق بحسب الدراسات والأبحاث العلمية والإنتاجات الإبداعية بين أرض متصحّرة وأخرى خصبة منتجة مثمرة وملهمة. وهنا يكون الفرق الشاسع في تجاوز الحدود بين إنسان وآخر، وبين مجتمع وآخر في كيفية التعاطي السلبي مع هذه الدائرة المرضية القاتلة من جهة، حيث يفقد الإنسان معها المناعة الكافية للمواجهة ما يؤدّي به الى السقوط في براثن الجهل والمرض.. وبين من اتخذ قرار المواجهة بالعودة الى مناعته الأخلاقية والقيمية والمعرفية التي تبقيه قوياً وحراً وقادراً على استخدام الأساليب العلمية والعقل والتحكم بهذا الفايروس وقتله من جهة أخرى…
وعليه، تضمّن هذا الفايروس الإنترنتيّ الذي شبه بـ «الثورة» إعادة صياغة العناصر التي يفهم الناس من خلالها العالم، ويتأكّدون ويعبّرون عمّا فهموه. وتؤثر الصور والأفكار المستمرّة وسرعة نقلها من أمة إلى أمة إيجاباً وسلباً على نموّ الشخص النفسيّ والأخلاقي والاجتماعي، وعلى بنية وسَير المجتمعات، وعلى التواصل بين الثقافات، وعلى إدراك ونقل القيم ونظرات العالم والإيديولوجيات والعقائد السياسية والاجتماعية والدينيّة.
من هنا، كان لا بدّ من الدخول الى هذه الدائرة المرضية الفارغة التي تشبه الجسد الفارغ من الروح، علنا نشرّح سبب تحوّلها الى فايروس مقتحم للبشرية من دون قيود، لفرض مزيد من الاستغلال والتلاعب والسيطرة والفساد ونشر الشائعات، والتعدّي على الأمن وسريّة المعلومات وحقّ النشر، وقانون الملكيّة الفكريّة، والإباحيّة، والمواقع المقيتة، واغتيال الشخصية، تحت ستار من الأخبار، ومسائل عدّة أخرى… إلخ
هذه «الكورونا الإنترنتيّة»، هي أشبه بالحرب التي فُرِضَت على المجتمع بسرعة البركان الحارق والمدمّر الذي يهدّد قواعد المجتمع وبنيته الثقافيّة التي تعتبر وجهة الحياة الاجتماعية والإنسانية… هي حرب قادرة على فرض التغييرات في العلاقات الإنسانية وفهم الإنسان لنفسه وبيئته ومجتمعه وأمته. وبالتالي نحن في حرب من نوع آخر قد تكون أكثر خطورة لأنها تخترق من الخارج ومن الداخل وتصل حدودها الى الروح الإنسانيّة التي تنتمي الى جسد محدّد بجغرافيته وحضارته ومكوّناته. إنّها حرب فوريّة، سريعة، منتشرة عالمياً، لامركزيّة، تفاعليّة، قابلة للتوسع إلى ما لا نهاية.
من هذا المنطلق، لا بدّ من اتخاذ القرار «بالمقاومة» الشخصية والمجتمعية، لهذا الوباء الإنترنتي وبالتالي إعادة الإنترنت الى السياق الذي يتناسب وخصوصية كلّ مجتمع من المجتمعات الإنسانية.. حيث يمكن للمقاومة أن تجعل الإنترنت وسيلة حقيقيّة للأفراد والجماعات والبلدان والجنس البشري، إذا استُخدِمَت فحسب في ضوء مبادئ الأخلاق والحق والخير والجمال.
هنا يتحوّل التحليل والنقاش الى عدم النظر إلى الإنترنت كفايروس مسبّب للمشاكل، بل ننظر إليه كمصدر منافع للجنس البشري، كما يتمّ استخدامه اليوم في ظلّ تفشي فايروس كورونا وضرورة الحجر المنزلي لكسر انعزال الأفراد والجماعات. وبالتالي تصبح المعادلة «فايروس إنترنتي» في مواجهة «فايروس كورونا». فالإنترنت في زمن التعبئة العامة وضرورة الحجر المنزلي قد يساهم في إيجاد مساحة آمنة للعقليّة المعارضة للحجر المنزلي ويساعدها على البقاء في العالم المتحرك حتى لو كان بشكل افتراضي، الا أنّ هذه الفئة البشرية غير الملتزمة بالقوانين والمُضرّة بالتنظيم الشرعي للمسؤوليّة العامة، قد يزيد ضررها من خلال عزلها ويعزز النزعة الفرديّة عندها. فالفضاء الإلكتروني، الذي يسمَح بكلّ أنواع التعبير أصبح القانون الوحيد لهؤلاء لممارسة الحرية الفرديّة المطلقة، وبالتالي أن يفعل المرء ما يشاء. وبالتأكيد يعني ذلك انّ هذه الفئة من المجتمع ستدفع باتجاه الاعتراف بحقوقها ومصالحها، وسيكون من السهل عليها أن تخلق مجتمعاً من المتطرّفين المدافعين عن الحريات، والمغرّدين بعكسها.
طريقة التفكير هذه نجدها عند المعارضين بشكل خاص لسياسات الدولة، بمؤسّساتها المختلفة، وتدعم نفسها بالحجج التحرّرية المألوفة المستخدمة، هي نفسها، عند آخرين للدفاع عن الإباحيّة والعنف.. على سبيل المثال، الفردانيون المتطرفون ورجال الأعمال هم مجموعتان مختلفتان جداً وبشكلٍ واضح، نجد تقارباً في المصالح بين أولئك الذين يريدون أن تكون الإنترنت مكاناً لجميع أنواع التعبير، مهما كانت دنيئة ومدمّرة، والذين يريدونها أن تكون وسيلة نقلٍ لنشاط اقتصادي غير مقيّد، على شكل الليبراليّة الجديدة التي «تعتبر الربح وقانون التجارة كمعلميها الوحيدين على حساب الكرامة والاحترام الواجبين للأفراد والناس».
نستنتج هنا، «أنّ القوى التي يمكن أن تؤدّي إلى تواصل أفضل، بإمكانها ان تؤدّي أيضاً إلى زيادة التمركز الذاتي والاغتراب». وتستطيع الإنترنت أن توحّد الناس، ولكن يمكنها أن تفرّقهم أيضاً كأفراد وجماعات مشبوهة تفرّقهم الإيديولوجيّة، والسياسات، والممتلكات، والعرق والإثنيّة، والاختلافات بين الأجيال وحتّى الأديان. وسبق أن استُخدِمَت الإنترنت بطرق عدوانيّة، غالباً كسلاح حرب، والناس يتحدّثون عن خطر الإرهاب الإلكتروني». وقد تكون «الكورونا الإنترنتيّة والمعلوماتيّة» أخطر وأشدّ وطأة من «فايروس كورونا» نفسه. فهذا الأخير قد يقتل الآلاف من البشر وينتشر في عدد كبير من بلدان العالم، الا أنه سيتوقف وينتهي مع انتهاء صلاحيته باعتباره مصنّعاً في أحد المختبرات الدولية. على عكس الفايروس المعلوماتي الذي لا يمكن توقيفه باعتباره العنصر الأهمّ والسلاح الأمضى من أسلحة العولمة إذا نجح أيديولوجيو العولمة في توظيف معطياته لصالحهم. فالمعلوماتية تمتلك خاصية تنفرد بها عن باقي التغييرات الجديدة، تلك هي إمكاناتها في التأثير وتجاوز الثقافات وحتى الاشتراك في صناعاتها. ويطلق على الأسلوب الجديد الذي يحظى باهتمام المؤسسة العسكرية الأميركية اصطلاح «عقيدة المعلومات» nformation Doctrine) ) حيث توصف المعلومات بأنها رصيد استراتيجي، وأنّ مجال المعلوماتية هو سبيلها لسيطرة الولايات المتحدة العالمية.
السيطرة الأميركية على عقيدة المعلومات لا يخرج عنها إلا الفايروسات التي استطاعت الانتشار الى كلّ بلدان العالم وخاصة البلدان المستهدفة من المتحكّمين والمسيطرين على وسائل التواصل الاجتماعي والمخترقين لكلّ الحسابات والمواقع العامة والخاصة، وهذا يشبه الاعتداء الفعلي وبناء المستوطنات التخريبيّة العشوائيّة في العقول البشرية المستهدفة.. ما يؤثر على عملية التفكير والإنتاج والانتماء والسيطرة الثقافيّة خاصة عندما تنقل «الكورونا الإنترنتية» المسيطِرة والمنتشرة قيماً اجتماعية وأخلاقية وسياسية خاطئة تضرّ بخير الأفراد والجماعات الحقيقيّ. وقد تنقل «الكورونا الإنترنتيّة» أمراضاً اجتماعية خطيرة متعلّقة بالزواج والحياة العائليّة والقيم والمعتقدات. فعلى الرغم من أهمية حريّة التعبير وحريّة تبادل الأفكار والبحث عن الحقيقة ومعرفتها الا أن هذه الحرية يجب أن تقترن بالنظام الأخلاقي والمصلحة العامة.
في النتيجة، أرى أنّ استخدام الإنترنت لساعات طويلة بسبب الحجر المنزلي ستكون له آثار سلبية على التنمية النفسية والصحية للافراد بما في ذلك إمكانية أن يكون الانغماس لفترات طويلة في عالم الفضاء الإلكتروني الافتراضي ضاراً للبعض على المستوى العلائقي بشكل عام والعاطفي بشكل خاص.. وهنا لا بدّ من الاشارة الى أنّ «الكورونا الإنترنتيّة» ستفقد الأشخاص والجماعات وخاصة الأهل القدرة على تحمّل المسؤوليّة لناحية ضبط استخدام الإنترنت بطريقة مستنيرة ومنضبطة لأهدافٍ جيّدة أخلاقياً، بالإضافة الى توجيه ومراقبة طريقة استخدام الأطفال والمراهقين لوسائل التواصل الاجتماعي. ويأتي ذلك في ظلّ إقفال المؤسسات التربوية والتعليمية التي كان من المفترض أن تلعب دورها أيضاً في هذا المجال، الا أنّ الظروف القاهرة فرضت عليها اعتماد «التعليم عن بُعد» الذي وعلى الرغم من أهميته وضرورته لا يغني عن قاعات التدريس والتواصل المباشر مع الطلاب وتوجيههم ومساعدتهم على مواجهة كلّ الفايروسات التي تهدّد المجتمع عبر فتح الآفاق للأبحاث العلمية النوعية والمنتجة.
*مدير معهد العلوم الاجتماعية – 3