أمومة مباحة
} زياد كاج*
جلست الأختان على الشرفة المطلّة على الشارع المكتظّ في المنطقة الشعبية في صبيحة يوم مشمس يضجّ بالحياة، وبينهما على الطاولة البلاستيكية البيضاء، ركوة قهوة وفنجانان شبه فارغين وعليهما آثار أحمر شفاه.
المناسبة كانت 21 آذار عيد الأم، كان الحديث عن الأولاد والهدايا المتواضعة المتوقعة لضيق الحال والقبل الصادقة التي ستطبع على خدودهن بعد عودتهم من المدرسة، فتدخل البهجة الرضا إلى قلوبهن المتعبة .
الضجيج في الشارع الضيق تحت كان يجبرهن من وقت لآخر على التحدث بصوت مرتفع، يصل أحياناً الى الصراخ. «ليش عمتصرخي ؟»، تتذمّر الأخت الكبرى فجأة، فتشير الأخت صاحبة الدار الى الشارع تحت. أصوات أصحاب العربات وباعة الخضار والفاكهة وكل ما يخطر على البال من سلع، ومعها زعيق أبواق السيارات العتيقة والدراجات النارية، وأصوات المارة وشلّة الشباب الذين تعوّدوا الجلوس على حافة الرصيف وأمامهم الأراكيل ومنقل الفحم.
كلّها شكّلت سيمفونية شعبية اعتاد عليها سكّان الشارع، ما عدا الشقيقة الكبرى التي كانت تحسب ألف حساب حين تزور أختها. فهي تقطن في منطقة تعتبر أفضل من الحيّ الذي تسكن فيه أختها. حتى الوصول إلى هنا في سيارة الأجرة صعب، ويتطلّب المشي لمسافة لا بأس بها للوصول الى البناية. بينها والمشي عداوة تعود الى زمن المراهقة، منذ أن علّقت في آفة التدخين في المدرسة الرسمية.
يا أختي، لازم تنقلي من هالبناية… بيتك بالإيجار، وأنت قادرة تنقلي ساعة يلي بدك!»، قالت وهي تدخن سيجارتها الخامسة، وتابعت: «ما في مصعد بالبناية، ولا ناطور يجبلك أغراضك، والإهمال أكل البناية من فوق لتحت».
أجابتها: «والله يا أختي معك حق.. بس أنا مرتاحة هون، كل شي حدّي. من اللحام للخضرجي والفرن وبياع السمك. حتى مدرسة الأولاد قريبة… القرار بيعود لزوجي. ما زاعجني إلا جارتي فوقي. آدميّة وعاقلة، بس أولادها مشاغبين.. طول النهار طواشينلي راسي»، أشعلت سيجارة جديدة.
«القرار قراركم»، قالت وهي ترتشف فنجانها بلذة، وبين إشعال سيجارة وأختها، اشتعل الحديث وطال بينهن حول الأهل والمستجدّات والأقارب والمشاكل وكل ما له علاقة بالأفراح والأتراح.
«أنا بجي بزورك وبفلّ»، أضافت الأخت الكبرى. «لو كنتُ محلك، ما بعيش يوم واحد إضافي هون! في بيوت للإيجار قريب من بيتي. شاوري زوجك وخبريني وتركي الباقي عليي.»
كانت البناية القديمة تتألف من أربعة طوابق، وكانت في حالة متقدمة من الإهمال بسبب ضيق حال العائلات المقيمة. السكّان لا يهتمون بكل ما هو خارج عتبات شققهم. النسوة يستخدمن أكياس ربطات الخبز الشفافة والرقيقة لتجميع ورمي النفايات المنزلية. الفضلات من أكياس «التشيبس» وتنك البيبسي ترمى على الدرج الذي عانت درجاته من فقدان بعض من بلاطاتها كأنها أسنان نخرها السوس! حيطان الدرج كانت وسخة وعليها آثار لأيدي الأولاد وكتاباتهم، أما الطلاء فتحول مع الرطوبة وبسبب النشّ وتبدّل الفصول إلى متعدد الألوان يشبه البذلة العسكرية المرقطة. سقطت على الأرض قطع متعددة الأحجام من الطلاء اليابس. كانت الأخت الكبرى تلتقط إحداها وتتسلّى بتفتيتها وهي تصعد الدرج إلى الطابق الثالث حيث شقة الأخت الصغرى.
«انظري تحت»، نبّهت الصغرى أختها، وهي تهزّ ذراعها كي توقظها من لحظات شرود في السماء الصافية. هي كانت معروفة بحشريتها وولعها بمراقبة الناس. كانت صبايا الحي حيث عاشتا أيام العزوبية يسمّونها «أم عيون» لدقة ملاحظتها لأصغر تفصيل، خاصة لما له علاقة ببشري يمشي على قدمين.
«وين..وين؟».
«هونيك تحت قرب عربة الموز… شفتي شو ناصحة هالمرا؟».
نظرت الأخت الكبرى الى الرصيف تحت الشرفة مباشرة، فرأت إمراة لافتة بوزنها الزائد وصدرها الكبير اللافت. كانت المرأة تتلفت يميناً وشمالاً كأنها تنتظر باص مدرسة أو تبحث عن شخص ما. وقفت لا تتحرّك.
« أي والله، حرام.. ليش تاركة حالها هيك؟»، قالت «لازمها ريجيم قاسي أو عملية تصغير معدة.»
ضحكتا، ومن تبادل نظراتهن، فهمن أن خيالهن أخذهن الى المواضيع المحظورة. فارتفعت وتيرة الضحك مع نوبات سعال متقطّعة.
لحظات وعادت الشقيقتان إلى عالمهن الخاص. نسيتا كل ضجيج وحركة الشارع تحت وتلك المرأة السمينة. فاليوم عيد الأم ومن واجبهن زيارة أمهنّ المتقدمة في السنّ وشراء هدية لها حيث ستجتمع العائلة في المساء. ستكون سهرة عائلية دافئة وسعيدة.
فجأة، علت صرخة إمرأة من الشرفة فوقهما مباشرة، ثم تبعها سقوط «شيء يتحرك» بلمح البصر. قطع حبال الغسيل، ثم تلى ذلك صوت ارتطام مكبوت، تبعته أصوات المارة تحت. مرّت ثوان قليلة، ساد السكون في الشارع تحت، ثم علت صرخات التكبير!
أكيد شي ولد عفريت من يلي فوق رمى قسطل زريعة متل آخر مرة»، علقت الأخت الصغرى بعصبية، «يمكن حدا مات تحت؟».
بعفوية رمت الشقيقتان الطاولة جانباً ومعها فنجانا القهوة، وأطلتا من الشرفة الى تحت. كان مشهدا صادماً: الابن الصغير لجارتها كان ملقىً إلى جانب المرأة السمينة على الرصيف والناس متجمهرة حولهما بشكل دائري غير مصدقين ما حصل. بعضهم بقي مسمّراً للحظات حول المرأة والصبي، والبعض ينظر الى الطابق الرابع حيث وقفت الأم المصدومة على شرفتها تصرخ بحالة هستيرية وتشدّ شعرها: «ساعدوني.»
بسرعة تدخل أهل الهمة والنخوة. أحدهم حمل بعفوية الولد الذي استعاد وعيه ولم يُصَبْ بخدش. لحظات وأصبحت أمه تحت، فاحتضنته وقبّلته مراراُ، غير مصدقة أنه لا يزال على قيد الحياة بعد سقوطه من الطابق الرابع! أما المرأة المسكينة، فبقيت غائبة عن الوعي الى أن وصلت سيارة الإسعاف التي نقلتها الى أقرب مستشفى.
بقية القصة بتفاصيلها الدقيقة أخبرتها الأخت الصغرى بمتعة حكواتي المقاهي قديماً في المساء لبقية العائلة في بيت العائلة. أمام ركوة قهوة كبيرة وعدد من الفناجين، دخنت الكثير من السجائر وهي تتفنن في وصف ما حصل أمام جمهور مستغرب ومسبّح. فبعد عملية استقصاء من الجيران وشهود العيان، تبين أن الولد سقط من أيدي أمه وهي تنشر الغسيل ليقع على صدر المرأة السمينة الواقفة تحت، فلم يُصب بأذى ، فيما هي أُغمي عليها من شدّة الصدمة. لكنها بقيت على قيد الحياة ولم تدخل المستشفى.
ضحكت الأم المعمّرة والسعيدة لرؤية أبنائها بخير، مجموعين حولها في غرفة واحدة أمام أعينها وسط الأحفاد الكثر وعلب الهدايا وباقات الورد.
قديماً قيل: «رب أخ لك لم تلده أمك.»
أضيف: «ربّ أم لك لم تلدك.. وربّ صدر يحميك ويضمّك وينقذك من الموت.. ولم يرضعك أو يضمك يوماً!».
*روائي لبناني.
