هل الهدف أن يذهب البريء ويعود المرتكب؟
إيمان شويخ
ليس المواطن مسؤولاً عن تهريب مليارات الدولارات إلى الخارج، ولا هو مضطر لتلميع صفحة من قام بأعمال نهب منظمة لموارد الدولة والمال العام على مدى عقود حتى يأتي الـ hair cut وينسف جنى عمره وهو الذي ضحّى بكلّ ما يملك من حقوقه المادية والمعنوية ليؤمّن جزءاً يسيراً من مستقبله، فبماذا يضحّي بعد اليوم؟
القرش الأبيض الذي كان مخبّأ لليوم الأسود صار أسود من الوضع نفسه، فمنذ 17 تشرين الأول وحتى اليوم يعيش المواطن ابتزازاً غير مبرّر بمدّخراته.
وبعد سقوط قانون الـ hair cut الذي كان كابوس المواطن الليلي والنهاري بعدما دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى قراءة الفاتحة عليه، تطرح أسئلة حول مصير ودائع الناس من جهة ومصير عجز الحكومة الذي كان سيغطى جزءاً منه من خلال تلك الودائع.
ظهور مؤشّرات اقتصادية بالغة السلبية صادرة عن صندوق النقد الدولي دقت ناقوس الخطر لدى الحكومة اللبنانية.
هذه المؤشّرات ليست جديدة، بل هي تكرار أو تأكيد للأرقام والتوقّعات التي وردت في ما سُمّي بورقة الحكومة اللبنانية لمواجهة الأزمة الماليةّ. فقد توقّع صندوق النقد انكماش الاقتصاد اللبناني بنسبة 12 بالمئة في العام الحالي بعد انخفاض الناتج المحلي القائم بنسبة 7 بالمئة في العام الماضي، وتوقّع نتيجة مماثلة سنة 2021.
هذه التوقّعات التي لم يشهد تاريخ لبنان الاقتصادي مثيلاً لها، ليست مسؤولية الحكومة الحالية لما وصل إليه الواقع الاقتصادي اللبناني. فالواقع الذي وصلنا إليه هو نتيجة تراكم عقود من السياسات الخاطئة منذ نهاية الحرب الأهلية وإخفاق الحكومات السابقة في إيجاد الحلول للمشاكل المتراكمة.
لكن، أيّا كان المسؤول عن المأساة الراهنة، فإنّ المشاكل التي نجمت أو ستنجم عنها سترمى في وجه الحكومة الحالية وسيتوقّع الرأي العام أن تجد الحكومة حلولاً لها بين ليلة وضحاها، بصرف النظر عن الذين تسبّبوا بها. فإذا فشلت الحكومة في معالجة الآثار المالية والاقتصادية والنقدية والاجتماعية للأزمة، فإنها ستعامَل على أنها الحكومة المسؤولة عن ثلاثة عقود من الأخطاء والخطايا، وهي منها براء.
والتحدّيات الآتية ليست من النوع الذي يمكن أن يُجابَه بسهولة. فتوقّع انكماش الاقتصاد اللبناني إلى أكثر من النصف في السنتين المقبلتين يعني انخفاضاً مريعاً في مستوى المعيشة، وإفلاساً للمؤسّسات الكبيرة والصغيرة، وارتفاعاً صاروخياً في معدّلات البطالة عبر خسارة عشرات الألوف من اللبنانيين لوظائفهم. ويعني ذلك أيضاً ارتفاعاً إضافياً في عجز الموازنة والدين العام، لأنّ الخزينة هي أوّل وأهمّ المتضرّرين من تراجع النشاط الاقتصادي بسبب الانخفاض الذي يسبّبه هذا التراجع في الواردات الضريبية وغير الضريبية.
لذلك، فليس غريباً أن تتوقّع الأوساط الرسمية، المحلية والدولية، ارتفاع عجز الموازنة إلى أكثر من 15 بالمئة من الناتج المحلّي، بعدما كانت الحكومة السابقة تبذل قصارى جهدها لجعل العجز يقلّ عن 7 بالمئة من الناتج، قبل أن تزفّ إلى اللبنانيين خبراً سعيداً، لم يصدّقه أحد، بأنّ عجز سنة 2020 سيكون صفراً.
في غمرة هذا المسار المخيف لا ننسى أكثر العناصر تأثيراً على أحوال المواطنين ومعيشتهم وهو التضخّم، الذي يبدو قد انفلت من عقاله بسبب الهبوط الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانية، حيث خسرت العملة اللبنانية 50 بالمئة من قيمتها في وجه الدولار الأميركي. وفي هذا الصدد، قدّر صندوق النقد معدّل التضخّم هذا العام بأكثر من 15 بالمئة، فيما ذهبت ورقة الحكومة اللبنانية وشركة «لازار» إلى أنّ التضخم في العام الحالي سيبلغ حوالي 25 بالمئة.
لا شكّ بأنّ الحكومة في مأزق كبير. فالمجتمع اللبناني ينتظر منها مواجهة هذه النتائج الاقتصادية والاجتماعية المريعة للأزمة، وفي نفس الوقت حلّ المشكلة المالية الناجمة عن وجود فجوة في النظام المالي بحدود 83 مليار دولار. وبدون إيجاد الحلّ الشافي للمعضلة المالية ستبقى أموال اللبنانيين أسيرة «الحجر المصرفي» تائهة بين المصارف ومصرف لبنان.
معضلة الحكومة أنها تواجه التحدّيات طبقاً لطبيعتها التكنوقراط، وبالتالي سوف لن تغطيها القوى التي دعمت تشكيلها في وقت كان لبنان يئنّ وبحاجة إلى حكومة إنقاذ أيّ لا يمكن إنقاذ البلاد من جيوب الشعب ومدّخراتهم مهما كان حجمها، وعليه فإنّ القوى التي دعمت تشكيلها لا تقدّم الدعم الكافي للحلول التي ترغب باعتمادها الحكومة في وجه الأزمة. وهي أجهضت مشروع قانون «الكابيتال كونترول» الذي كان يرمي إلى تشريع القيود على سحب الأموال من المصارف أو تحويلها من عملة إلى عملة أو إخراجها من لبنان. وبالأمس القريب أسقط مشروع قصّ الودائع «هيركات» الذي يحمّل المودعين ومساهمي المصارف عبء سدّ الفجوة المالية البالغة 83 مليار دولار.
هذا على صعيد القوى الداعمة للحكومة. أما القوى المعارضة، فهي تلتزم الصمت الذي ينطوي على الشماتة، ولا تقدّم أيّ مساعدة للحكومة. مع أنّ الحقيقة والإنصاف يقضيان بالقول إنّ هؤلاء المعارضين الصامتين هم الذين خلقوا الأزمة وفاقموها حتى أصبحت جبلا ينوء تحت حمله المجتمع اللبناني البائس.
أمام هذا الحصار إلى أين تتّجه حكومة حسّان دياب؟ كيف ستتصرّف حيال الأزمة المصرفية والمالية؟ هل لديها مشاريع واقتراحات أخرى بعد إجهاض مشاريع الكابيتال كونترول والهيركات»؟
يعجز الخيال عن تصوّر بدائل أخرى لهذين المشروعين، إلا إذا شربت الحكومة «حليب السباع» وقرّرت الاندفاع بقوّة نحو الإصلاح المالي الحقيقي والجذري، وهو ما تعمل عليه الحكومة اليوم بالرغم من حلول فيروس كورونا ضيفاً ثقيلاً في غير وقته المناسب وزيادته العجز عجزاً بعدما شلت الحركة الإقتصادية وأقفلت معظم القطاعات الاقتصادية أبوابها، وهنا ستواجه باعتراضات أعمق وأعنف لجهة تأمين الإيرادات، وتقليص حجم القطاع العام في باب النفقات.
ربّما كان الذين يسدّون الأبواب أمام حكومة دياب ينتظرون هذه اللحظة، حيث تنفجر ثورة اجتماعية في وجه حكومة ليست مسؤولة عن الأزمة، فيحصل تغيير حكومي ربّما كان الكثيرون يسعون إليه في الخفاء.
لكن التغيير، إذا حصل، سيؤدّي إلى وقوع البلاد في تناقض لا سابق له، فتسقط الحكومة البريئة من دم الأزمة ليعود إلى الحكم أولئك الذي دفعوا البلاد على طريق الانهيار، بدم بارد…!