لمن السلطة في زمن كورونا؟
د. عصام نعمان*
كورونا وباء خبيث ومتواصل، يجتاح العالم برمّته. لأ احد بمقدوره أن يجزم متى بدأ ومتى ينتهي. ثمة، بين أهل العلم والطبّ، مَن يخمّن أنه عائد بقوة إلى الصين في مطالع الخريف المقبل. فرنسا وبريطانيا لم تنتظرا هذه النبوءة غير الموثّقة لتنضّما الى الولايات المتحدة في حملة سياسية لدمغ الصين بأنها صانعة الوباء ومصدّرته الى العالم.
في هذه الأثناء، ينتشر كورونا ويفتك بلا هوادة. ما تفعله الدول والمنظمات الدولية والأهلية في مواجهته لافت، لكنه غير لاجم. فالوباء الخبيث الكاسح ينتج مفاعيل وتحوّلات كونية واسعة ومتواصلة في كلّ المجالات. لا غضاضة، والحالة هذه، في محاولة الإحاطة بظواهر هذه التحوّلات واستشراف مآلها.
في هذا السياق، ثمة سؤال يُطرح: لمن السلطة في غمرة هذه التحوّلات، لا سيما في البلدان والمجتمعات التي يفتك بها الوباء الخبيث بلا رحمة؟
ظاهر الحال يشير إلى أنّ السلطة ما زالت في أيدي أصحابها الممسكين بها منذ ما قبل تفشّي الوباء، وأنهم يمارسونها بأدواتها القديمة والجديدة. لكن نظرة متأنّية الى الواقع المأزوم تشي بحقيقة لافتة هي انّ تواصل الوباء بوتيرة متسارعة وتداعياته المتفاقمة في شتى المجالات كشفت قصوراً وضموراً في فعالية بعض الآليات والأدوات ما حمل أهل السلطة على الاستعانة بأقوى أدوات الضبط والربط: القوات المسلحة.
صحيح أنّ للقوات المسلحة في حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية مهامَّ وأدواراً تتجاوز وظائفها الأصلية لتمتدّ الى مهام ووظائف هي من صلب اختصاص السلطات والمؤسسات المدنية. لكن ماذا يمكن ان يتأتى، إذاً، عن هذه الأدوار المدنية الاستثنائية للقوات المسلحة في قابل الأيام؟ وما انعكاساتها المحتملة على مسألة السلطة وأهلها وممارستها؟ فلنعرض أمثلة من الواقع:
في لبنان اضطر أهل السلطة، إزاء تفاقم تداعيات كورونا في مختلف المجالات، الى إعلان التعبئة العامة وبالتالي تسليم القوات المسلحة مهامّ تسيير متطلبات الحياة العامة في مختلف وجوهها المدنية باستثناء ممارسة السلطة السياسية. وإذ افتضح تقصير الإدارة المدنيّة في مسألة تنظيم جداول بأسماء الأسر الفقيرة المؤهّلة لاستحقاق المساعدات الماليّة المقرّر صرفها في شتى مناطق البلاد، تعالت أصوات شعبية تدعو الى تسليم الجيش المهامّ التي لها صلة بالأمور المعيشية نظراً لتمتعه بصفة وطنية جامعة وسمعة ناصعة في النزاهة ومجافاة المحاباة والمحسوبية.
نجاح الجيش في تسيير شؤون الحياة العامة في هذه الفترة العصيبة يُضعف نفوذ أهل السلطة ويُسهم في تعريتهم وتقويضهم، خصوصاً أنهم عادوا الى التصارع والتعارك وكأنّ البلاد في أحسن حال. كلّ ذلك يعزز اتجاهاً شعبياً وسياسياً متنامياً في البلاد يدعو الى تسليم السلطة لقادة الجيش. فهل يمكن تفادي هذا الاحتمال؟
في «إسرائيل»، ثمة أزمة سياسية متفاقمة نَجَم عنها إجراء ثلاث انتخابات خلال أقلّ من سنة، ولا يُستبعد إجراء انتخابات رابعة في غضون شهرين. هذه الحال المترعة بالخلافات والصراعات السياسية المتأجّجة عززت مطلب بعض الأوساط بتسليم الجيش مقدرات الكيان في هذه الفترة العصيبة. لعلّ ما قاله المحلل السياسي تسفي برئيل في صحيفة «هآرتس» (8/4/2020) خير مؤشر في هذا المجال: «هل حان الوقت للحكم العسكري في «إسرائيل»؟ وكم هو سهل الانجراف الى الإحساس بالأمان الذي يخلقه تدخل الجيش في إدارة الشؤون الداخلية للدولة؟ وكم هو عميق الشعور بالإحباط من إخفاق وزارة الصحة ووزارة العمل ورئيس الحكومة (نتنياهو) بحيث يبدو الجيش الإسرائيليّ في غمرة هذه المشاعر المَخرج المنطقي لكلّ أمراض الدولة؟». يستنتج برئيل أخيراً: «فعلاً، في الفترة التي يُطلق كورونا الحرية لتوجّهٍ أعوج، يبدو الحكم العسكري وكأنه هو الأمر المطلوب»!
في الولايات المتحدة، ثمة مشكلة علاقة بين الرئيس دونالد ترامب وجنرالات القوات المسلحة وحتى بينه وبين مجلس الشيوخ رغم انّ الأغلبية فيه لحزب الرئيس. منشأ المشكلة اتضاح عدم وجود استعداد جدّي لدى إدارة ترامب لمواجهة الوباء الخبيث الفتّاك، والنقص الفادح في المشافي والأسرّة واللوازم الطبية كأجهزة الفحص والتنفس والأدوية والأطباء والممرّضين، وتأخّر إدارة ترامب في الاعتراف بهجمة كورونا الضارية على البلاد والعباد، وتخبّط الرئيس في محاولاته للهروب الى الأمام عبر وضع اللائمة والمسؤولية تارةً على الصين وطوراً على منظمة الصحة العالمية.
تفاقمت الأزمة بعد إصابة المئات من بحارة حاملة الطائرات «تيودور روزفلت» بعدوى الفيروس الخبيث، ما اضطر ترامب الى تغطية تقصيره بإقالة قبطانها. غير انّ البنتاغون (وزارة الدفاع) وكبار جنرالات القوات المسلحة سارعوا الى فضح جهله وتقصيره بتسريب خطة لصحيفة «The Nation» كان وضعها البنتاغون سنة 2017 يحذر فيها من انّ الولايات المتحدة تواجه تهديداً وبائياً في المدى القريب هو «مرض تنفسي جديد اسمه عدوى فيروس كورونا».
هذه الفضائح، مصحوبةً بنزاع ترامب مع حكام ثلاث ولايات لإصراره على صلاحيته الرئاسية وحده برفع الإغلاق العام من دون استشارتهم، ادّت الى اندلاع تظاهرات مسلحة احتجاجاً على استمرار الحجر الصحي.
فوق ذلك، هدّد ترامب بتجميد الكونغرس بدعوى امتناعه عن بتّ بضعة قوانين بينها واحد يسمح لضحايا كورونا بمقاضاة الحزب الشيوعي الصيني في المحاكم الأميركية!
هذه الصراعات تنعكس على علاقة الرئيس الأميركي بالقوات المسلحة، لكنها لا تؤدّي بالضرورة الى تمرّدها عليه وإنْ كانت تعزز الاتجاه الانفصالي المتنامي في بعض ولايات الجنوب.
يتحصّل من مجمل هذا العرض انّ اضطرار الحكومات، بعد تفشّي وباء كورونا، الى اللجوء للقوات المسلحة لسدّ الثغرات والنواقص في هياكل إداراتها المدنية والتقصير الفادح في أدائها من جهة، ومن جهة أخرى نجاح القوات المسلحة في «المهام المدنية» المسندة اليها قد يؤدّي، خصوصاً في الدول الفاشلة وتلك التي تُتهم المنظومات الحاكمة فيها بالفساد والقصور والتسلّط، الى نشوء تطوّرين مهمّين: أولهما تراجع استعدادات معظم الدول في اللجوء الى خيار الحرب نظراً لانشغال قواتها المسلحة بمهامّ مدنية كثيرة ومهمة؛ وثانيها – نتيجةً لذلك كله – تزايد نزوع القادة العسكريين الى الاعتقاد بأنهم أفعل وأفضل من القادة السياسيين المدنيين في القيادة الوطنية والإدارة العملانية، وبالتالي أجدر منهم في تولي السلطة.
مسألة السلطة وأهلها بعد انحسار وباء كورونا ستكون بالتأكيد غير ما كانت قبله.
*وزير سابق.