الومضة والتنمية البشرية!
رندلى منصور*
الومضة كتعريف هي لحظة، مشهد، موقف، أو إحساس خاطف يمرّ في المخيلة أو الذهن يصوغه الكاتب/ الشاعر بألفاظ قليلة. ويقال إنّها وسيلة من وسائل التجديد الشعري أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث.
فهل هذا صحيح فعلًا؟
بالعودة إلى الإنسان وعلاقته التاريخية باللغة نجد أن اللغة كانت ومازالت أداة يصوغ من خلالها أفكاره ومشاعره وعلومه ويعبر من خلالها عمّا يدور في أعماق الفكر والإحساس ويترجمها من خلال تعابير متوافق عليها لغويًا، نجد معانيها ومصادرها واشتقاقاتها في المعاجم اللغوية في اللغات كافة. وهكذا كانت اللغة مذ بدأت بالصوت والإشارة في العصور القديمة، إلى الكتابات المختلفة بأبجدياتها المتنوّعة، وصولًا إلى ما يتعارف عليه اليوم بلغة الإنترنت.
لكن هل هذا يعني أن الإنسان اكتفى بذلك عبر التاريخ والتزم به ولم يستعمل اللغة إلا ليظهر إبداعًا أدبيًا أو فكريًا؟
لقد اجتهد الإنسان طويلًا في الفنون والآداب والعلوم ليخرج كل ما يجول في خاطره، لينقله من اللامحسوس إلى المحسوس.
من هنا نرى عبر التاريخ محاولات مستمرة إن كان في التعليم أو التربية أو العمل أو حتى الدين مواجهة ضروساً تجاه الاختلاف، فلطالما عمل أفراد المجتمع لخلق قوالب محددة لصناعة أفراد اجتماعيين متشابهين، لذلك كانت الفنون، بأغلبها ومن يمارسها من فئة المنحرفين الاجتماعيين، التي بدت وكأنها أعمال شيطانية، أو أن من يمارسها ملعون، وصولًا إلى اعتباره مهمشًا في مجتمعه. لكن ذلك لم ينسحب على عالم الأعمال فكان على قدر من الأهمية استغلال الطاقات البشرية لتعطي أفضل الممكن.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن إدارة الموارد البشرية، وبالتالي التنمية البشرية، رغم كونها علماً حديثاً عالميًا رغم تسمياته المختلفة عبر العصور من إدارة شؤون الموظفين إلى إدارة الموارد البشرية، قد ربطت دومًا بمجالات الاقتصاد والأعمال بمعنى أن الاهتمام الدائم بالمورد البشري يكون محدّد الأطر ومفتاحه تطوير الأعمال لما فيه مصلحة المنتج الربحية وإبقاء هذا المنتج منتشراً في السوق.
لكن هل هذا فعلًا ما حصل مع الإنسان؟
ماذا عن الإبداع والابتكار الإنساني؟ وكيف حصل ذلك؟ وهل تطرق إلى كل الميادين بما فيها اللغة والأدب أم اكتفى بتطوير الإنتاج والاستهلاك المادي فقط؟
لا نستطيع في هذا المقال تناول كل مجالات الإبداع والابتكارالإنساني لكن حتمًا من الضرورة أن نطرق أبواب بعضها حتى يتمّ عرض صورة متكاملة للمسار الوجودي الإنساني وحتى نستطيع ذلك من الواجب خرق الزمان والعودة إلى التاريخ من باب الأدب والعلوم والفلسفة.
الومضة وعلاقتها بالإنسان
من الضروري عرض بعض التساؤلات التي تجعلنا نعيد النظر بالواقع الإنساني من باب المقارنة والاستفادة من الماضي حتى نستطيع بذلك بناء ملامح المستقبل.
الومضة والقلق الوجودي متلازمان، فالإنسان والقلق الوجودي لم يفترقا عبر التاريخ.
فالومضة أدبيًا، يقول يوسف الخال: «نحن نجدّد في الشعر، لا لأننا قررنا أن نجدّد، نحن نجدّد لأن الحياة بدأت تتجدّد فينا، أو قل تجدّدنا. فنجاحنا مؤكد ولا حاجة لنا بأي صراع مع القديم. القافية التقليدية ماتت مع صخب الحياة وضجيجها والوزن الخليلي الرتيب مات بفعل تشابك حياتنا وتغير سيرها. وكما أبدع الشاعر الجاهليّ شكله الشعري للتعبير عن حياته، علينا نحن كذلك أن نبدع شكلنا الشعري للتعبير عن حياتنا التي تختلف عن حياته».
أتفق مع هذا الكلام من باب أن الإنسان إبن بيئته وأن كلّ ما يقوم به إنما هو تجسيد لما يمرّ به خلال حياته إن كان تعبيرًا لفظيًا أدبيًا أو نتاجًا علميًا أو فكريًا وفلسفيًا. وهنا نتساءل عن إنسان اليوم، هل هو فعلُا بعيد عن الفلسفة؟ فبعد أن شهد تاريخ الشعوب، في مختلف بقاع الأرض، فكرًا فلسفيًا على مدى عصور، منها ما تمّ استيراده للاستفادة منه وهذا ما جعل حركة النقل والترجمة تزدهر أواخر الحقبة الأموية وخلال الحقبة العباسية بخاصة أيام المأمون في بيت الحكمة، بغداد، ومنه ما تمّ ابتداعه لمواجهة الوجود الذي كان الإنسان يجهله. وهنا يصحّ قول «الإنسان عدو ما يجهل» فاجتهد الفلاسفة في التفكير والتمحيص لإيجاد إجابات لكلّ ما لم يكن له إجابة. لكن ماذا عن اليوم؟ هل توقفت الحركة الفلسفية بفعل المعرفة أم بفعل الإمعان في الجهل والابتعاد عن التفكر والتفكير؟
وماذا عن الشعر الجاهلي الذي كان ينتهي معناه مع انتهاء كل بيت، لكأن البيت الواحد كان قصيدة، فهل كان زمانهم يشبه زماننا؟ ما الذي جعل من المعلقات الشعرية أمثالًا نتوارثها جيلًا بعد جيل؟
أهو تغيير البيئة أم التغير الزمني أم تغير الإنسان نفسه؟
الومضة والمورد الإنسانيّ والإبداع في تفاعل وتلازم مستمرين
الومضة والإنسان يلتقيان عند نقطة القلق الوجودي ليثمر هذا القلق المستمر إبداعًا بكل الأشكال.
القلق الوجودي لغويًا، هو الاضطراب والانزعاج، بمعنى أنه يدفع الإنسان للخروج من منطقة الراحة أي Comfort zone ، وهذا يؤدي إلى خلق سبب أساسي لإعادة التوازن، أما مصطلح وجود يعني الشعور الأساس للوجود في العالم، إذ ينبثق من شعور داخل المرء بأنه مرغم على اختيار وجوده، ومواجهة الحياة عن طريق الاختيار المرفق بالحرية والمخاطرة.
يشير مصطلح القلق في الفلسفة الوجودية إلى مشاعر عدم الرضى والارتياح تجاه الاختيار والحرية في الحياة.
وقد كان ذلك ملازمًا للإنسان منذ بداية وجوده على الأرض مما جعله يبتدع الأمور التي يمكن من خلالها أن يخفف عن نفسه عناء الاضطراب والانزعاج. فقد خاف الإنسان، منذ الأزل، من الطبيعة والبقاء، مما جعله، خلال فترة البداوة، قلقًا على بقائه فدخل في صراعات من أجل تلبية حاجاته من ماء وكلأ. وهذا جعله حكيمًا وقد ظهر ذلك من خلال القصائد الجاهلية التي حوت الكثير من الأبيات التي نقلت خبراتهم وواقعهم المعاش وفلسفتهم الحياتية وذلك عبر بيت شعري واحد مكثف ومكتمل المعنى والمبنى فمهما تغير مكانه في القصيدة لا يغير في ذلك شيء، فالمعنى يبدأ وينتهي داخله وتوارثناه إلى يومنا، بل ونستعمله في مواضع كثيرة كمثل عن واقع نمر به اليوم.
من نيوتن «وجدتها» التي غيّرت مسار العلوم، وهي ردة فعل لواقع معيش وقلق، أخذ حيزًا كبيرًا من تفكيره، فجاءت ترجمته قانونًا للجاذبية.
وصولًا إلى زمن العولمة وما خلقته من قلق وجودي حديث يعبّر عنه في مختلف أنواع وسائط التواصل الاجتماعي في ظلّ ضعف المساحة الزمنية والحرية الوقتية التي يعيشها إنسان اليوم. في ظلّ هذا العالم الجديد الذي زخر بكلّ الملوثات الإنسانية حيث فقد إنسان اليوم الانتماء بمفهوم الأرض، وفقد القيم بالمفهوم البيئي الاجتماعي وأصبح كائنًا، عالميًا عولميًا، ينتمي إلى عالم افتراضي دمّر كلّ الحدود الجغرافية وعزله في شاشة، هدم التواصل الاجتماعي الحقيقي، الجسدي والنفسي والحسي، لصالح التواصل الدائم الافتراضي مع أصدقاء لا نعرفهم وعالم لا نفقهه، فأضاع إنسان اليوم الوجود بالفعل ليحيا في الوجود بالقوة. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أنّنا على عكس المسار الطبيعي والمنطقي للفلسفة الوجودية. من هنا هل يمكننا أن نجزم بأن الومضة فعل حاجة أم نتيجة وضع إنساني متغير وغير ثابت، رافق الإنسان في سيرورته منذ النشأة وحتى اليوم؟
فهل كانت الومضة حلًّا مبتدعًا من الإنسان يصوّر حقيقة ما يمرّ به هذا المورد الأساس في مسار الوجود؟ أم أنها كانت نتيجة للمتغيرات، إذًا فهي اتخذت أشكالًا متجدّدة لحقيقة مبتدعة قديمة بقدم وجود الإنسان؟
واليوم مع تسارع الحياة وظروفها وفي عصر العولمة التي أزالت كلّ القيود الجغرافية فتحول العالم بفضلها إلى قرية كونية تبدّدت مخاوف وظهرت مخاوف جديدة أبقت سلسلة القلق الوجودي مستمرة من دون انقطاع، لكن بعناوين وأساليب وحاجات جديدة، ويظهر ذلك جليًا من خلال التواصل الإجتماعي حين نجد التواجد الضخم من الإعجابات على صورة أو عبارة قصيرة وتتلافى الأغلبية الساحقة التواجد أو التفاعل على نصوص طويلة أو قصائد عمودية.
من هنا حضور الومضة الشعرية التي طوّرها وأكّد بل شدّد على تواجدها الفايسبوك من خلال النشر الملون والمبتدع، حين لا يتخطى النص بضع كلمات وفي حال العكس نعود إلى النشر الروتيني في حال تخطى الناشر العدد المسموح به. لكأن الومضة دخلت مع إنسان اليوم إلى عالم مقونن يجبر الإنسان الحديث والتكنولوجي على اللجوء إلى مقولة «خيرالكلام ما قلّ ودلّ».
ومع دخول العالم اليوم معضلة الكورونا المستجد، Covid 19، الذي عكس مسار يوميات الإنسان المعاصر الذي دأب على محاربة الوقت حتى يحظى بالتواجد في عالم من أبرز سماته الوقت والسرعة لإنتاج أكبر بأسعار أقل واستهلاك أكبر وأرباح أكبر.
وقف الإنسان اليوم حائرًا أمام تلك الحقيقة الجديدة التي خلطت كلّ الأوراق من جديد وغيرت كلّ الهواجس ودخلنا إلى نفق القلق الوجودي البدائي، وكأنّنا في دائرة أقفلت لنبدأ المسار من جديد لكن هذه المرة بأدوات وأنماط جديدة. إنّه الصراع الأبدي للبقاء بكلّ ألوانه وأوجهه وهذا القلق المستمر الذي عاصره الإنسان في كلّ العصور، ومن بدء الأزمنة، تحايل عليه بابتداع واختلاق وسائل شتّى، كما نرى اليوم، الكم المبدع على وسائل التواصل للمضي قدمًا في صراع بقائنا في ظل الحجر المنزلي ووجهًا لوجه مع أدوات العصر الحديث، فالبرق والرعد الذي يعصف بنفوسنا، حواسنا، عقولنا، ومشاعرنا ليخرج منّا أجمل ما ينبض فينا، لنؤكد لأنفسنا، أولاً، أنّنا ما زلنا على قيد الوجود.
فهذه الرغبة الدفينة للبقاء تولّد فينا طاقة هائلة وبومضة يصبح ذاك البركان الجياش فينا طاقة إيجابية تخرج منها ومضة فكرية يُعبّر عنها بمجموعة من الكلمات القليلة، لكن إن وضعناها بميزان الفكر والإبداع تزن مثقال تعب وقلق وإصرار للبقاء على قيد الوجود.
شكرًا ديكارت «أفكّر إذًا أنا موجود» هي الشعلة التي تنطلق منها الومضة اليوم بعد تاريخ طويل من التفكير والتحليل وصولًا إلى التجديد، فالإبداع لنعود إلى نقطة الانطلاق من جديد.
*الأدب الوجيز