تشكيل «غابريلا سيميتش»… انحياز لمدرسة الواقع بكل مفارقاته!
} طلال مرتضى*
منذ المطالعة الأولى لأعمال التشكيلية النمساوية «غابريلا سيميتش» يقف الرائي على حقيقة هويتها الفنية والتي تنزاح بكل معطياتها وتجريبها إلى المدرسة الواقعية والتي أفضت لضرورة معالجة الواقع من خلال رسمه كما هو. تجدر الإشارة إلى الذين ينضوون تحت عباءة هذه المدرسة الفنية هم أكثر واقعية من حيث تدوينهم بالرسم للحياة اليومية بعيداً عن فكرة إقحام ذاتهم في المواضيع التي يتداولونها، من باب قناعتهم أن المنطق الموضوعي أكثر أهمية في معالجته لشؤون الحال.
ومن خلال ما تقدّم أعلاه، أجد أنه ولتقريب الفكرة في ذهنية الرائي أو المتلقي وعلينا ترك فرصة له للوقوف على هوية وانتسابية أي عمل تشكيلي قبل قراءته. وهذا ما يذهب في نهاية الأمر إلى مفارقة العمل الفني الواقعي مع عمل فني من مدرسة أخرى. وعلى سبيل المثال ومن باب التعريف، نستشهد بما يقوله الفنان «ديلاكروا» وهو من روّاد المدرسة الرومانسية: «على الفنان أن يصوّر الواقع نفسه من خلال رؤيته الذاتية».
لتأتي المفارقة أو المقاطعة حين يقف الفنان «كوربيه» وهو من روّاد المدرسة الواقعية ليرد على «ديلاكروا» اعتقاده بالقول: «من الضرورة تصوير الأشياء الواقعية القائمة في الوجود خارج الإنسان».
هذا وبالمحصلة النهائية يأخذنا إلى ما تذهب إليه غابريلا سيميتش النمساوية، حيث إن الرائي أعمالها يجد أن ذاتيتها تنكمش إلى حد التلاشي أمام تصوير الأشياء بموضوعية وبأسلوب عميق ودقيق الاختيار، لكنه وبالمطلق بعيد عن الرمز الذي يذهب نحو تعمية الأشياء أو ما يخضع لسلطة التجريد التي تومئ أشارياً نحو القصد أو المعنى من خلال تفعيل ممكنات الخيال لتغليبها على الواقع وهو النهج الذي جعل من الفنان الفرنسي «كوربيه» يهرب بعيداً تاركاً خلفه ما يطلق عليه «المدرسة الرومانسيّة» عندما قال: «لا أستطيع أن أرسم ملاكاً؛ لأنه لم يسبق لي أن شاهدته».
الدلالات اللونية لدى الفنانة غابريلا غالباً ما تشير إلى أنها وبقصدية تامة تذهب نحو تشكيل مواضيعها الفنية بألوان باردة وهي أسلوبية انتهجتها الفنانة، لكونها تعرف أن خاصية اللون البارد تعطي ارتياحاً مفعماً بالحيوية في عيون الرائي أو المتلقي لكون الأخير يذهب مباشرة إلى معادلة الموضوع بما يوازيه واقعياً..
فاستعمال الرصاص وبشكل شفيف يكسر من تعريفه العادي الذاهب في كثير من الأحيان نحو الضبابية أو الانزوائية القاتمة، ذلك دأب جلي يسعى إليه الفنان ليكسر هوية اللون بذاكرة متلقيه، فالأحمر لا يعني بالمطلق هو ثورة الغضب الكلي أو العاطفة الجيّاشة حدّ الإفراط بل يمكن أن تتم مقاربته في مواضع أخرى تتم الاستجابة لها تحت تأثير اللحظة كالمفارقة بين تفاحة غابريلا أو الولوج إلى جوانية حبة البصل للوقوف على تفصيلات الحياة في كل منهما أو لكسر المعتاد مع البقاء داخل دائرة الحيّز الواقعي كما في تصويرها للياسمين، فحضور الياسمين في الواقع يقوم على البياض الكلي وهو ما يجعله يمارس خصوصيته في حضور الألوان الأخرى، لكننا حين نقف على واقع آخر وقريب من الحواس هنا تتنزل الدهشة في العين حين نرى الياسمين مخضباً وبلون غير المعتاد. هذا وعلى الرغم من يقيني بأنني في حضور رسم كلي لياسمين حر إلا أنني أتساءل هل أرادت غابريلا بذلك الهروب نحو مدرسة أخرى مع التمسك بواقع الحال. وهذا ليس أكثر من اعتقاد من باب أنني وفي الغالب ما أجد حضوراً للياسمين المخضب في صور الشعر أكثر من صور الواقع.
وهذا ينطبق تماماً على زهرة التوليب التي تتركها انعكاساً على القماش.
غالباً ما يتأثر الفنان الواقعي بمحيطه وفي كثير من الأحيان يستحيل هو على جزء مكمل من هذا المحيط. فما تنتجه ريشة غابريلا سيميتش لا يبتعد عن طقس مدينتها فيينا وبكل ممكناته المتقلّبة بين هدوء وضوضاء من برد وحر وفي كل الحالات طافح الماء والندى.
غابريلا سيميتش تشكيلية نمساوية. لها معارض فردية عدة والكثير من المعارض المشتركة في النمسا.
*كاتب عربي/ فيينا.