الإلغاء السياسي في لبنان ممنوع!
} د. وفيق إبراهيم
الحكم في لبنان ليس ملكياً وراثياً على الرغم من ان العائلات السياسية المتشابهة تُمسك بالسلطة فيه منذ تأسيس الدولة في 1945 من دون انقطاع.
قد تتجدّد أسماء عائلات ترث عائلات شبيهة بها فتأخذ موقعها على اساس وحدة المشروع السياسي المرن بالتقلبات، ووليد جنبلاط نموذج واضح لهذه الصفة. لكن هذه المرونة تقتصر على المصالح مقابل التجمّد داخل البنى الطائفية التي تمثلها. فهناك من يعتقل التفاعلات السياسية ويمنعها من مغادرة الحدود القصوى للعبة الطوائف.
أما القوة الوطنية التي تنجح في اختراق آليات الحكم النيابية، فتصبح مجرد فولوكلور مُضحك يستغله اهل التقليد السياسي للدلالة على ديموقراطيتهم الهزيلة.
هذا هو لبنان الذي يبدو هشاً وبوضوح من خلال الاحداث التي تهز مدنه وأريافه، حيث يُصاب المراقب بنوبات استغراب لمنظر آلاف من المتظاهرين يهاجمون المصارف محطّمين المحال والإدارات والمتاجر ويعتدون على عناصر الجيش تتولى عادة حفظ الامن فقط.
هؤلاء يجمعون بين فئات شعبية صادقة اصابها الجوع والفقر بشكل عميق، الى عشرات المدفوعين من قبل أجهزة استخبارية متنوعة مع «مؤمنين» دفعت بهم مراجعهم الدينية المباشرة في الجوامع والكنائس و»الخلوات» للدفاع عن «الطائفة» في الشارع كما لا يمكن نسيان أحزاب طائفية وهي خارج الحكومة حالياً، لكنها تنتمي الى النظام الطائفي وتعمل بعنف للعودة اليها، فتوفد المئات من مؤيديها المدفوعي الأجر لتنفيذ عمليات تحطيم وتكسير وإطلاق اتهامات تزعم ان حكومة حسان دياب هي المسؤولة عن الجوع في حين ان ابسط المحللين، يعرف ان الانهيار الاقتصادي الحالي يعود الى تراكم سياسات اقتصادية، عمرها ثلاثون عاماً ونيفاً.
إن هذه القوى التي تنقل الشارع الى الفوضى وتحاول دفع حكومة حسان دياب الى الاستقالة ليست قوية في موازين القوى الداخلية.
كما انها ليست كثيرة الضعف، ما يجعلها تحتمي داخلياً بالمرجعيات الدينية العليا، والسفارات على جاري العادة. فتصبح جزءاً من الحركة الأميركية لنشر التوتر في المشرق العربي باستخدام كل قوة قبلية او طائفية او جهوية بإمكانها اثارة التوتر.
لذلك بدا واضحاً ان تلفزيون «العربية» السعودي اقتحم المشهد اللبناني بما يشبه الإعلان الأميركي بوضع لبنان امام احتمالين: اسقاط حكومة دياب والامتناع عن اسقاط النظام الطائفي بفضح جرائمه وهذا يتطلب حكومة تسويات بين مجمل القوى السياسية الداخلية، صاحبة الاوزان المقبولة، وهذا يشمل ثلاثي جنبلاط – الحريري وجعجع مع التيار الوطني الحر وحركة امل وحزب الله، وبعض «الزينة السياسية» غير الوازنة.
هذا هو العرض الاميركي الاول، اما الثاني فهو تفجير فوضى سياسية، طائفية تؤدي الى الانهيار الاقتصادي الى دفع لبنان نحو بوابات جهنم والانقسامات المناطقية.
ولتأكيد التهديد الاميركي أجرت العربية مقابلات تصعيدية مع جنبلاط وجعجع ذهبت في اتجاه إرضاء السياسة السعودية، وذلك باستهداف شديد لحزب الله، وهذا جزء من الحرب الاقليمية، ولم تنس هنا حكومة دياب التي اعتبر جعجع «ببراعة» «القليلي الثقافة»، بأنه لن يدافع عنها اذا كان من الضروري إسقاطها!
هذه المقابلات الإقليمية استهدفت حزب الله لإثارة رعب التغطيات الاميركية العربية للنظام الطائفي اللبناني بأن حزب الله على وشك الإمساك بالسلطة في لبنان من خلال حليفيه الرئيس ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب.
أين المشكلة اذاً؟
المشكلة في عدم وجود «بديل» سياسي غير طائفي له المقدرة على منازلة قوى الطوائف في الشارع والمؤسسات، و»البدلاء» ينتمون الى النظام الطائفي نفسه بأشكال مختلفة.
فهل هناك قوة لبنانية واحدة تستطيع جذب لبناني من طائفة اخرى الى صفوفها؟ هناك استثناءات لا تزيد عن عدد اصابع اليد لخارجين عن مركزيات طوائفهم، لم يجدوا دوراً فيها، فجذبتهم أحزاب من طوائف اخرى تستعملهم للدعاية والتصوير.
نحن اذاً، في قلب نظام طائفيّ جهنميّ تتصارع مكوّناته على احجامها ومصالحها مع استعدادها الكامل للدفاع عن طائفية النظام الذي جعلها تملك أموال قارون وسلطات أعلى من سلطات الملوك ونظاماً وراثياً ينقل زعاماتها الى أبنائها من دون أي تساؤل او تأفف.
لذلك فإن حسان دياب خارج عن المألوف التقليدي، صحيح انه وصل الى رئاسة الحكومة من خلال «سنيّته» كما يقتضي الدستور والأعراف. وجرى اختياره لتحجيم الحريرية السياسية.
إلا انه لم يقبل بممارسة لعبة الطوائف، شاهراً سيف تغيير عميق، يشمل معظم أفرقاء السلطة المتوغلين في الفساد.
ما استدعى ولادة نقمة من أحزاب الطوائف على حكومته، هذه الاحزاب التي أرعبها حسان دياب بشفافيته وصراحته وإصراره على الربط بين كامل قوى النظام الطائفي وبين الانهيار الاقتصادي والسياسي، وتقاطعه مع حزب الله المؤيد لهذا الاتجاه، إنما مع حكومة حسان دياب، لتخفيف الضغط الخارجي عنها، وهذا لم يمر بالطبع على الرعاة الإقليميين والدوليين للطائفية السياسية في لبنان. فهذه وسيلتهم الحصرية «الفاعلة» لمجابهة الدور الكبير لحزب الله في الداخل والإقليم.
فيتبين ان لبنان مقبل على تصعيد طائفي خطير لفرضين متكاملين: حماية النفوذ الأميركي فيه، وصون الجناح الطائفي الموالي للسياسات الأميركية السعودية، وهذا يتطلب تحريكاً للمفتين والبطاركة وشيوخ العقل، لرفع مستوى المعركة، ومنع أي «إلغاء سياسي» للآليات الداخلية المنضوية في عباءات الخليج والسروال الأميركي.
هل بالإمكان مجابهة هذا التصعيد؟ يجب اولاً الابتعاد عن المناوشات الطائفية، لأن هناك من يتحدث عن اشتباكات مذهبية وطائفية «مفبركة» لإعادة الصراع الى طائفي – طائفي، وبذلك يتم استيعاب البعد التحديثي والوطني لمعركة حكومة دياب مع قوى الطوائف وصولاً الى الغائه ما يعني إسقاط الحكومة الحالية والعودة الى مربع الحريري – بري – جعجع – جنبلاط والتيار الوطني الحر وحزب الله بالضرورة لمراقبة ما يجري.
لذلك فإن نجاح التيار الحكومي الجديد رهن بمدى النأي بالنفس عن حرب الطوائف على أن يكون الجيش الأداة الحصرية في تأمين الاستقرار.
وهذا مناخ يستدعي دوراً وازناً لأحزاب السوري القومي الاجتماعي والشيوعي والناصري والأحزاب الداخلية اللبنانية للدفع في اتجاه التأسيس لديموقراطية لبنانية فعلية، تعمل على إقرار مفهوم الغُلب السياسي وتؤسس لإلغاء الطائفية السياسية الى الأبد.