تصويب الأمل…
} لواء العريضي
في لبنان تكاد كلّ قضية تقسم الرأي العام الى أقسامٍ متناحرة. فتدور المعارك الافتراصية في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وغالباً ما يصطف وراء كلّ رأي، حزب أو مجموعة أحزاب معيّنة. لا اتفاق في القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية والعسكرية ولا حتى الإلهية. وصل الأمر الى حدّ اشمئزاز الناس من الأحزاب اللبنانية وتصرّفاتها. فهي هي منذ الحرب اللبنانية، تقاتلوا فكان الثمن آلاف الأرواح، فهادنوا أصبح الثمن مليارات الدولارات من الدين العام. هم فشلوا في إدارة ووضع استراتيجية اقتصادية للبلد. وهذا ليس بجديدٍ في لبنان. فمنذ الاستقلال المزعوم كان لبنان المستفيد الأكبر من الأزمات الإقليمية التي ما انفكّ ينفض يديه منها حتى اليوم. فالاستقرار الجزئي الذي نعم به منذ الاستقلال حتى الحرب الأهلية المشؤومة كان نتيجة زوال المنافسة ووجوده كحلّ وحيد للتجارة في شرق المتوسّط. فلم يكن يوماً ناجحاً بسبب خطة اقتصادية ناجحة أو تبنّي فكرة أو إيديولوجية معينة.
والفشل الاقتصادي الكبير جعل الناس أكثر اقتناعاً بأنّ مشكلة لبنان هي الأحزاب والمحزّبين وطريقة تعاطي الأحزاب مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي نواجهها. وهذا ليس بأمرٍ غريب لأننا نعلم أنّ كلّ الوظائف العامة في الدولة هي ملك الأحزاب، ودون مباركة أحدها يستحيل التوظيف. وهم نفسهم من يحيكون الصفقات ويتوسّلون الفساد لإرضاء مناصريهم، وخطابهم في العلن يتناقض مع قراراتهم في الدولة. وإلقاء اللوم على الخصم هو جلّ ما يقنعون به تيّارهم.
من خلال هذا المقال، نسعى للتصويب على مشكلة لبنان الحقيقية والإضاءة العلمية على دور الأحزاب. فبرغم ما تقدّم أعلاه، تكمن مشكلتنا في الطائفية والأحزاب الطائفية، وليس في كلمة «حزب» كمفهوم سياسي علمي. فالطائفية هي سبب أساسي في الحرب اللبنانية تعود جذورها للقرن التاسع عشر 1840، وكلّ محتلّ أو مستعمر أتقن لعبتها شرّ إتقان. والوظائف العامة هي فعليّاً ملك الطوائف وممثليها من أحزاب طائفية، فالمحاصصة في الدولة أساسها طائفي لا حزبي. والخطاب الطائفي الذي يعمل دائماً على شدّ العصب هو الحاجز الأكبر في المجتمع، هو اللجام الذي يمنع لبنان من التقدّم. ولا ننسى دور هذه الأحزاب الطائفية في تحويل أنظار الناس عن قضايا مهمة ترتبط في وجودهم لمصالح مشبوهة. فاللبناني بعد حربٍ دموية طائفية دامت 15 عاماً لا يزال يراهن على المنطق الطائفي ذاته، فانتخب ممثليه على هذا الأساس وها هو اليوم يدرك أنّ أثَر الفشل الاقتصادي الذي قادنا إليه من انتخبه يساوي آثار الحرب المريرة، لأنّ هاتين الفاجعتين حدثتا بفترة جيلٍ واحدٍ، فالشخص ذاته شهد الحرب ومساوئها والأزمة الاقتصادية وبؤسها، والوجوه السياسية الطائفية هي عينها في كليهما.
للأحزاب عدة تعريفات تتفق معظمها على أنّ الحزب السياسي هو تجمّع أفراد منظّم إلى حدٍّ ما، له صفة الديمومة، هدفه التعبير عن آراء ومواقف وتطلعات أعضائه ومؤيديه وخياراتهم السياسية، وإفساح المجال أمامهم لممارسة السلطة. فالحزب يطمح أساساً إلى تحمّل مسؤولية ممارسة الحكم. كما أنّ دور الأحزاب أساسي في المجتمع وهي ركن أساسي من أركان الديمقراطية. فلا يمكن تطبيق الديمقراطية أو الوصول اليها دون وجود أحزاب. ولا يوجد دولة ذات نظام ديمقراطي في العالم لا تلعب فيها الأحزاب دوراً أساسياً في الحكم. هذا ليس رأي، هذه حقيقة علميّة. فالأحزاب تحدّد القضايا العامة وتنظّم عملية الصراع السياسي في تيارات سياسية محدّدة، يندرج تحتها مؤيدو هذه الفكرة أو تلك. وفي التنافس الديمقراطي يتطوّر المجتمع ويتقدّم دائماً.
إنّ الأحزاب تعمل على تثبيت الرأي العام لدوره الأساسي في الاستقرار والازدهار، كما أنها أفضل من يعدّ نخب الشباب لتولّي المسؤوليات في المستقبل فتساعد في تجديد عقلية ممارسة السلطة ومواكبة التطوّر. وغيابها يساعد على استمرار النخب التقليدية في الحكم، فنصبح أمام اتجاهات مبهمة غرائزية تتعلق بالمزاج والتربية والعادات والوضع الاجتماعي، فتكثر الانقلابات وتعمّ الفوضى والمواطن يدفع الثمن. كما أنّ للأحزاب دوراً أساسياً في نشر الوعي وحث الأفراد على الالتزام بنظامها كمقدمة للالتزام بالنظام العام في الدولة، وفي الأحزاب النظامية غالباً ما تكون الأخلاق من أساسيات العمل الحزبي والاجتماعي.
إنّ قانون الأحزاب واضح، وباستعراض البعض من مواده يمكننا تحديد الخلل وقياسه في مجتمعنا. ففي البداية في تمويل الأحزاب هناك طرقٌ شرعية وهي عبر اشتراكات أعضاء الحزب، الهبات والوصايا والتبرّعات، والعائدات المرتبطة بنشاطاته وممتلكاته، وكلّ ما هو غير ذلك يجوز التحقيق فيه واتخاذ الإجراءات المناسبة. ثم ننتقل الى مرسوم إشتراعى رقم 153 تاريخ : 16/09/1983 حيث تقول المادة 36 منه أنه: «يحظر الانضمام الى الاحزاب السياسية على القضاة والعسكريين في الجيش وقوى الامن الداخلي والامن العام وعلى الموظفين والمستخدمين والأجراء والمتعاقدين في إدارات القطاع العام والبلديات وكذلك على الموظفين والمستخدمين والأجراء والمتعاقدين المدنيين في الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام.» كيف هذا وكلنا نعلم أنّ الوظائف التي تذكرها هذه المادة تتمّ بالتعيين الطائفي السياسي معمّدةً بولاءات سياسية. أما المادة 41 فتنص: «على الحزب السياسي ان يودع أمواله في مصرف باسم الحزب» مما يتيح للأجهزة الرقابية بطرح سؤال «من أين لك هذا؟»
مما تقدّم نستخلص أنّ المشكلة اليوم في الدرجة الأولى هي الطائفية وما يتبعها من طائفية سياسية ومحسوبيات وفساد وفي الدرجة الثانية عدم تطبيق القوانين والمساءلة. فتوهَّمَ الجميع في الآونة الأخيرة أنّ المشكلة تكمن في الأحزاب كمنظمات سياسية تحدّ المجتمع، إنما الحقيقة هي أنّ الأحزاب الطائفية عندنا ليست سوى غطاء للطائفية المقيتة التي تجري في عروق البعض وتفرّق شعبنا يوماً بعد يوم. فمفهوم الأحزاب السياسية الذي يسود في كلّ العالم ناقصٌ في لبنان ويجب تطوير معرفتنا به لتطبيقه بما فيه من خير لمجتمعنا.
انبذوا الطائفية وكرّسوا دور الأحزاب العلمانية أو ساهموا في تأسيس أحزاب جديدة تمحو ذاكرة الحرب الطائفية وتقضي على الاستراتيجية التقليدية في خطاب الجماهير وتحريضهم. فالأحزاب العلمانية التي ترسي أسس الديمقراطية هي الخلاص الوحيد باتجاه نهضة شعبنا.