حاكم يسأل ولا يُسأل
بشارة مرهج _
قال الحاكم ما عنده وذهب. لا مجال للسؤال كما لا مجال للمساءلة. علينا أن نأخذ كلامه كما هو، ونكرز به كما هو. لا زيادة ولا نقصان، ولا تعليق من هنا او من هناك. لا بل علينا أن نسّلم أمرنا له بدون جدال لأنه أثبت في كل المراحل أنه حاكم فعلي لا تهمه صرخة مظلوم، ولا احتجاج طالب، ولا انتقاد خبير، ولا حتى معارضة الدائرة القانونية في مصرف لبنان التي تجرأت أكثر من مرة وأعلنت بطلان بعض خطواته – كالهندسات المالية – لعدم وجود قانون يغطي فجورها. وقد أغدقت المال على مَن لا يستحق بحجة جذب الأموال الصعبة من الخارج. مع علم الجميع بأن تلك الأموال (حوالي عشرة مليارات دولار) لو استثمرت في السياحة والمعرفة والصناعة والزراعة لارتفعت مداخيل الأقتصاد وازدادت مناعة البلاد.
لقد أثبت حاكم مصرف لبنان الأستاذ رياض سلامة، في مؤتمره الصحافي الأخير، عجزه عن النقاش فهو لم يتعوّد عليه في مصرف لبنان، حيث هو الآمر الناهي بوجود المجلس المركزي أو غيابه، كما بحضور مفوّض الحكومة أو امتناعه.
لكل ذلك قال الحاكم ما عنده – أو ما ليس عنده – وخرج لا يلوي على شيء. فلا أموال منهوبة ولا أموال مهرّبة. التعاميم دقيقة والالتزام بها مطلق. سعر الصرف لا تشوبه شائبة، والناس تحصل على حقوقها كاملة. إذن لماذا السؤال ولماذا النقاش؟! انتهى الموضوع وهكذا هي الأمور. وعليكم يا أبناء لبنان العظيم الاستماع والامتثال. ألم يثبت الامتثال أنه أفضل الخيارات بوجه من يريد الإطباق على العالم بالحصار والتهديد والتشهير؟!
لن نستطرد. لأنه ما عدا البديهيات تهرّب الحاكم من القضايا الخلافية التي لا لزوم لمناقشتها. فالرجل مقتنع بكلامه ولم يسجل خطأً واحداً خلال 27 سنة. ولكنه هذه المرة لم ينتبه لعبارة ساحرة قالها بكل ثقة أمام جمهور لم يعد يؤخذ بسحر الكلام. «لن نفلس أي مصرف». إنها عبارة مثيرة وجذابة وإن كانت مريبة وخطيرة في آن. فمن أعطاك هذه الصلاحية لتقول مثل هذا الكلام؟ فعندما يتقيّد المصرف بالقوانين، ويتصرّف بنزاهة مع مودعيه، ويلتزم بالاحتياطي المطلوب، وينأى بنفسه عن المضاربات والمغامرات، ويراقب عمليات التسليف ويتأكد من سلامتها فهو ليس بحاجة الى أحد ولا يستطيع أحد أن يفلسه أو أن يقول له «ما أحلى الكحل بعيونك».
أما إذا اختار البنك بإدارته ورئيسه أن يلعب بأموال الناس ويدخل في استثمارات خاسرة في تركيا وسواها، ويفتح فروعاً في الخارج لا جدوى منها، ويغضّ النظر عن مساعدين مهووسين بشراء الشقق في «السوليدير»، فأنت لا تستطيع أن تنقذه إلا اذا تجاوزت القانون وزوّدته بما لا يستحق من أموال الناس. وهذا باختصار ما يسمّى الهندسات المالية التي لم يأت على ذكرها قانون وضعيّ أو إلهيّ.
وبدون الخوض في موضوع الهندسات المالية وكلفتها وشرعيتها وآثارها الكارثية على قطاع المصارف والاقتصاد الوطني نطرح عليك يا سعادة الحاكم سؤالاً نعلم أنك لن تردّ عليه: عندما يشعر صاحب البنك المتعثر أنّ ثمة مَن سيمدّ له طوق النجاة مهما كانت خسارته ومهما كانت مخالفاته ومهما كانت تجاوزاته فأيّ قطاع مصرفي سينضبط حينذاك تحت راية القانون ويخضع لقيم النزاهة وينسجم مع تقاليد الائتمان؟ إنّ قولك «لن نفلس أيّ مصرف» يشبه قول عميد كلية الهندسة لطلابه «لن يسقط أحد منكم في امتحانات آخر السنة» أو قول رئيس الدائرة الحكومية لموظفيه «لن يتعرّض أيّ منكم للعقوبة سواء أخطأ أو انحرف».
إنّ اسقاط مبدأ الثواب والعقاب داخل الطبقة المصرفية ومن قبل مرجعها الأعلى بالذات لا يؤدّي فقط إلى الإهمال والفوضى في هذا القطاع الحيويّ، وإنما يسهم أيضاً في تنمية عصبية مصرفية مريضة ترى الحق في كلّ ما تقوم به وإن انحدر عملها إلى إذلال المواطنين وحرمانهم أموالهم.
نحن لا ندعو إلى إفلاس أيّ مصرف، ولكن إنقاذ أيّ مصرف يخطئ في قراراته واستثماراته يجب أن يكون على حساب أصحابه وكبار المساهمين، لا على حساب المودعين، وذلك عبر تسليفات ميسّرة تُستردّ بعد حين حصصاً وأسهماً للدولة على النحو الذي جرى في أميركا وسواها. فأموال الناس ليست سائبة حتى يستولي عليها مدراء وأمراء مصارف امتهنوا البذخ والترف والمغامرة بأموال المودعين.
*وزير ونائب سابق.