أولى

فجوتان اجتماعيّة وسياسيّة تضعان خطة دياب الماليّة في مواجهة سياسيين فاسدين أقوياء ومواطنين جائعين ضعفاء

 د. عصام نعمان*

في كلمته الى اللبنانيين أعلن رئيس الحكومة حسان دياب «أن الدولة اصبحت تملك، لأول مرة في تاريخها، خطة مالية مكتملة ومتكاملة، تنتهي بها وعبرها مرحلة التخبّط في سياسات مالية أوصلت البلد الى حالة الانهيار الحالية».

خطة دياب المالية ليست الأولى في تاريخ لبنان السياسي، فقد سبقتها خطط متعددة لعلّ أبرزها «برنامج التصحيح المالي» الذي وضعته حكومة الرئيس سليم الحص سنة 1999 وحرصت على تنفيذه لغاية انتهاء ولايتها، دستورياً، أواخرَ تشرين الاول/ اكتوبر سنة 2000. ثم إنّ خطة دياب غير مكتملة وغير متكاملة إذ تعتورها فجوتان اجتماعية وسياسية.

الفجوة الاجتماعية تتجلّى في عدم اتخاذ قرار بشأن سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية في حين أنّ هذا السعر تحرّر فعلاً إذ بات أربعة أسعار على الاقلّ نتيجةَ قرارات متعددة ومتداخلة ومتناقضة صدرت عن مصرف لبنان المركزي خلال الشهرين الماضيين.

تسبّبت هذه الفجوة بضررين فادحين: استمرار التلاعب بسعر صرف الدولار وصعوده الجنونيّ بلا سقف، وترك القرار بشأنه بيد صندوق النقد الدولي الذي سيطلب، خلال مفاوضة الحكومة لمنحها برنامجه المطلوب للدعم المالي، تحرير سعر صرف الليرة وتركه للعرض والطلب. ذلك يؤدي بالتأكيد الى استفحال غلاء متطلبات المعيشة الضرورية كالأغذية والأدوية والوقود التي تُستورد من الخارج. فهل يُخفى على الرئيس دياب مدى استفحال الضائقة المعيشية بسبب البطالة والغلاء ووباء كورونا والإغلاق العام وشلل الاقتصاد وخطر الانزلاق تالياً إلى ثورة الجياع؟

الفجوة السياسية تتجلّى في ردود فعل سياسيين متضررين من وصول دياب الى رئاسة الحكومة، ومن إعلان خطته المالية المسيئة الى نفوذهم ومصالحهم واحتمال تعرّضهم إلى المحاسبة والمحاكمة بتهم صرف النفوذ والإثراء غير المشروع وتهريب الأموال المنهوبة. السياسيون المتضرّرون أقوياء في الشارع وفي أروقة السلطة، ولن يتوانوا عن بذل أقصى الجهود، بالتعاون مع قوى خارجية، للحؤول دون مباشرة إجراءات المحاسبة وبالتالي المحاكمة ضد المشتبه بهم والضالعين في الفساد ونهب المال العام.

إن الكثير من الإصلاحات والإجراءات التي تنطوي عليها الخطة المالية تتطلّب تشريعات يُقرّها مجلس النواب، فهل الرئيس دياب واثق بأنّ المجلس سيكون متعاوناً معه في هذا المجال؟ لعله لم ينسَ ما حدث لمشاريع قوانين ذات طابع اجتماعي في الجلسة الأخيرة التي عقدها مجلس النواب في مبنى الأونيسكو. لقد جرى ردّها او تأجيل بتّها رغم أنها لا تمسّ مباشرةً مصالح السياسيين الفاسدين او المشتبه بهم، فهل سيكون هؤلاء أرحم بمشاريع القوانين الأكثر راديكالية، خصوصاً قانون استعادة الأموال المنهوبة؟

ثمة معارضة سياسية قوية لحكومة دياب في مجلس النواب وفي سائر الأوساط التي تتأثر بتوجّهات وتعليمات أركان نظام المحاصصة الطوائفية الذين تمكّنوا، من خلال قوانين الانتخابات غير الدستورية المتعاقبة، من إعادة إنتاجه ما أدّى تالياً الى تدويم الأزمة السياسية التي أفرزت بدورها الأزمة المالية والإقتصادية الراهنة.

الى معارضة السياسيين الفاسدين والمتضررين من حكومة دياب وخطتها المالية، ثمّة معارضة أخرى سياسية وشعبية داخل مجلس النواب وخارجه، يقتضي أن يضعها الرئيس دياب في الحسبان. إنها معارضة غالبية الشعب اللبناني المتضررة من نظام المحاصصة الطوائفية وشبكته الحاكمة، والساعية عبر ممثليها في مجلس النواب وقواها الوطنية والتقدمية في الشارع وفي فضاء الثقافة والنقابات العمالية والمهنية والأحزاب والهيئات الاجتماعية، الى تغيير النظام السياسي الفاسد وإبداله بآخر مبني على أسس الديمقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية.

هذه المعارضة تنامت جرّاء أخطاء أهل النظام وخطاياهم على مرّ التاريخ، لا سيما ما يتعلّق منها بقمع الحريات والظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي، فكان أن أطلقت في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي انتفاضة شعبية استقطبت عشرات آلاف العاطلين من العمل والفقراء الجياع.

 صحيح انّ الانتفاضة تراجعت بفعل استشراء وباء كورونا ولجوء أركان الشبكة الحاكمة الى إثارة العصبيات الطائفية بغية ضعضعة قوى التغيير ولجمها، لكن قواها الوطنية والتقدمية الأكثر جدّية وفئاتها الشعبية الأكثر تضرّراً من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة أخذت تنهض وتستنهض الفئات الشعبية لمواجهة المخاطر والتحديات المحيقة بها، وجوداً وحقوقاً ومصالح. فكيف يقتضي أن تتعامل مع الرئيس دياب وخطته المالية من جهة، ومع السياسيين الفاسدين المتضررين من الخطة من جهة أخرى؟

أرى أن عليها القيام بالمهام الآتية:

اولاً: المسارعة الى اعادة تنظيم صفوفها والمبادرة الى إحياء الانتفاضة الشعبية والتوفيق بين أطرافها بغية إقامة هيئة للتنسيق بين مختلف أطرها وقياداتها اللامركزية.

ثانياً: التحاور بين مختلف اطراف الانتفاضة الشعبية من أجل التوافق على أولويتين، الأولى للمدى القصير والأخرى للمدى المتوسط. الأولوية الأولى إقناع الرئيس دياب وحكومته بالحوار، بادئ الأمر، ومن ثم بالضغط الشعبي اذا تعذّر التوافق، بوجود فجوة سياسية تُعيق تنفيذ متطلبات الخطة المالية قوامها نظام المحاصصة الطوائفية وأركانه من السياسيين الفاسدين، وبأنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إقرار مشاريع قوانين الإصلاح والمحاسبة الأكثر راديكالية في مجلس النواب الحالي ما يستوجب التحوّط لذلك بالوفاء باستحقاق قديم متوجّب يشكّل الأولوية الثانية، وهي إعداد مشروع قانون ديمقراطي للانتخابات يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته، وإحالته بصفة المعجّل على مجلس النواب لإقراره تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة وفق أحكامه.

ثالثاً: تأليف وفد موسّع يمثل أطراف الانتفاضة الشعبية لمراجعة الرئيس دياب وإقناعه بوجوب النهوض بمهمتين استراتيجيتين: التشدّد، اولاً، في مفاوضة صندوق النقد الدولي لتفادي شروطه القاسية المتعلّقة بفرض ضرائب مرهقة للطبقات الشعبية، وعدم ترك سعر صرف الليرة للعرض والطلب لكونه يؤدي الى استفحال الغلاء. والمهمة الثانيّة المبادرةفي حال تباطؤ او امتناع مجلس النواب عن إقرار قانون الانتخاب الجديدإلى عرضه بموجب مرسوم على استفتاء شعبي عام لإقراره وإجراء الانتخابات تالياً وفق أحكامه.

رابعاً: التشدّد في معارضة ومحاسبة أهل النظام الطوائفي الفاسد والحؤول، بكل الوسائل المشروعة، دون إعادة إنتاجه عبر الانتخابات أو من خلال تحالفات سياسية وطائفية غايتها حماية مصالح أركانه وزبانيته وعرقلة عملية الإصلاح الديمقراطي السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

خامساً: الانفتاح على سورية وسائر أركان محور المقاومة وذلك لتأمين تحقيق مصالح لبنان الاقتصادية مع دول الجوار العربي من جهة، والمشاركة في عملية إعادة الإعمار المقبلة فيها من جهة أخرى.

الكرة في ملعب حكومة حسان دياب وأطراف الانتفاضة الشعبية على السواء.

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى