المناصفة غلبت الكورونا
} لواء العريضي
توهّمنا أننا على شفير وداع الطائفية في الأشهر الأخيرة التي عشناها، وباتت الأغلبية تعلم نسبة الخراب الذي سبّبته هذه الآفة. حتى في الدولة لا سيما على صعيد الحكومة شعرنا بتغيّرٍ ما في طريقة التعاطي مع الأمور ولو بنسبة خجولة. ولكن مع مجيء أزمة الكورونا وإرسال طائرات الإغاثة للجالية اللبنانية، ايقنّا أن لا حياة لمن تنادي.
لن أتكلّم عن سعر تذاكر السفر أو عدد الطائرات التي أُرسلت الى بلدان الاغتراب اللبناني لأنّ غيري قد تناولها كثيراً، ولست بصدد إلقاء اللوم على شخص معيّن أو وزير أو حكومة أو حتى دولة، ولن أتناول طريقة تعاطي السفارة اللبنانية في نيجيريا أو القنصلية في لاغوس مع المغتربين لأنّ الاتهامات المتبادلة وتصريحات القنصل واضحة فلا ضروروة لإعادة سرد الأحداث.
لكن من هنا سأنطلق لصبّ الهجوم على نهجٍ عمره من عمر «دولة لبنان الكبير». نهج المناصفة الدينية والمحاصصة الطائفية. إنّ الميثاق الوطني الذي رسّخ الانقسام الديني، وقسّم لبنان إلى «شعبين متعايِشَيْن» بدل التأكيد على أنّنا شعب واحد، ما زال يزيدنا انقساماً حتى اللحظة. وبصفتي مغترباً في نيجيريا وأتابع أعمال الجالية في إدارة الأزمة، يهمّني أن أُعلم القارئ أنّ ميثاقنا الطائفي ما زال يسري في عروق بلدنا الذي نعشق، وما انفكّ يفرض نفسه عند أيّ استحقاق أو أزمة.
التزم اللبنانيون الذين يسكنون مع عائلاتهم في نيجيربا بتعميمات السفارة وفضلوا أن تأخذ عملية الإجلاء مجراها الطبيعي وإفساح المجال أمام الحالات الخاصة للعودة أولاً، لكن بعد معرفة تفاصيل آخر رحلة لا يمكن تنبّؤ ما ستحمله لنا الرحلة المقبلة في جعبتها. فمن خلال الحديث مع أبناء الجالية والإطلاع على تفاصيل الرحلة الأخيرة التي أقلعت من لاغوس باتجاه بيروت، يمكننا رؤية تقسيم المقاعد على الطائرة بالتساوي تماماً بين المسلمين والمسيحيين! إذا أحْسنّا الظنّ وقلنا إنّ هذه مجرّد صدفة، لما كنا سمعنا أصوات أبناء الجالية الذين بحاجة ملحّة للعودة للوطن ترتفع. نساءٌ حوامل في النصف الثاني من فترة الحَبَل، عائلاتٌ مع أطفال تخاف البقاء هنا ليس بسبب الفيروس فقط، بل خوفاً من تدهور الوضع الأمني أيضاً، وغيرها الكثير من الحالات الطارئة. هل لعنة هؤلاء الأشخاص ديانتهم أم عقليّة دولتهم؟ هل كان سيرتفع صوت البعض إن كانت الطائرة تحمل حالات خاصة أكثر ومسلمين أو مسيحيين أقلّ؟ هل دخل فيروس كورونا بازار الطائفية والتسويات؟ كيف تبرّرون هذا الإعوجاج بالتعاطي مع الأزمة والمراهنة على مشاعر الناس؟ الجواب بسيط، لا مبرّر!
في الماضي كنا نتغنّى أنه في لحظة وصول اللبناني إلى أراضي الاغتراب ينسى الإثم الطائفي وما جنى عليه سياسيّوه، فيتحوّل إلى إنسانٍ علمانيّ يتقيّد بنظام وقوانين بلد الاغتراب. لكن اليوم القيّمين على الموافقة على أسماء ركّاب طائرات الإجلاء أرادوا نبش المناصفة الطائفية متناسين أنها بالدرجة الأولى سبب انتشارنا وتشتتنا في أسقاع العالم.
ولكن لا بدّ من التنويه بهمّة ونخوة شباب الاغتراب الذين هلعوا للمساعدة وجمع التبرّعات والمشاركة الفعّالة بإسعاف البلد الذي يستقبلنا برحابة صدر والوطن الأمّ الذي نهواه رغم الضربات الحساسة التي ما زلنا نتلقاها من القيّمين عليه. فمعادلة أصحاب الحالات الخاصة أولاً دون مراعات القيد الطائفي، هي أدنى ما يتوقعه أيّ مغترب في هذه الأزمة.