ألمانيا فعلتها: فمَن بعدَها!
د. عدنان منصور*
لم يكن القرار الألمانيّ المنحاز، يوم 30 نيسان 2020، القاضي بوضع الجناح السياسي لحزب الله على لائحة الإرهاب، بعد أن اقتصر التصنيف في السابق على الجناح العسكري للحزب، مفاجئاً لمن يتتبع تطوّرات وملابسات هذا القرار الظالم، بحق حزب مقاوم للاحتلال والإرهاب. إلا انّ القرار الألماني يثير ويطرح بشكل مباشر وغير مباشر أموراً عدة، لا بدّ من تسليط الضوء عليها وأبرزها:
1 ـ مما لا شكّ فيه، أنّ الضغوط المتواصلة، الأميركية والإسرائيلية، واللوبيات الصهيونية العاملة بكلّ قوة داخل ألمانيا، ودول الاتحاد الأوروبي، لم تتوقف يوماً، ومنذ سنوات، من أجل حمل ألمانيا على اتخاذ إجراء صارم ضدّ حزب الله. فاليمين المتطرف المتمثل بنواب، وأحزاب، وسياسيين، وإعلاميين، كان يدفع باتجاه قرار كهذا. كانت الأجواء في الداخل الألماني، مهيّأة لتصبّ في هذا الإطار، خاصة أنه سبقت القرار مناقشة البوندستاغ ـ البرلمان الألمانيّ ـ للمرة الأولى، يوم 6 حزيران 2019، لمقترح تقدّم به حزب «البديل لأجل ألمانيا»، يطلب فيه فرض حظر على حزب الله اللبناني. أحال الحزب الطلب، الى لجنة الشؤون الداخلية والوطنية في البرلمان، لمزيد من النقاش وإبداء الرأي. وقد استند الحزب في طلبه، الى «أنّ حزب الله حزب شيعي إسلامي لبناني، يرفض حق إسرائيل في الوجود»، وأنه «ينشط في قتال مسلح إرهابي ضدّ إسرائيل»، وأنه «يشكل تهديداً للنظام الدستوري لألمانيا»، طالباً من الحكومة الاتحادية، إصدار الحظر وتنفيذه فوراً.
تجدر الإشارة، الى انّ وزير الدولة الألماني فيلز اينان، أعلن في شهر آذار عام 2019، لمجلة «دير شبيغل»، انّ حزب الله لا يزال مكوناً أساسياً في المجتمع اللبناني، وعبّر عن رفض ألمانيا إدراج الحزب في قائمة المنظمات المحظورة، ولو انّ الاتحاد الأوروبي وضع الجناح العسكري للحزب عام 2013 على لائحة المنظمات المحظورة.
2 ـ سبق لبريطانيا التي صنّفت الجناح العسكري لحزب الله، عام 2001 و2008 على لائحة المنظمات الإرهابية. ونتيجة لضغوط الولايات المتحدة و«إسرائيل» واللوبي الصهيوني عليها، اعتبر وزير الداخلية البريطانية، ساجيد جافيد، النائب عن حزب المحافظين الحاكم، وهو من أبرز وأشدّ داعمي وناشطي اللوبي اليهودي المعروف بـ «أصدقاء إسرائيل» (CFI)، ويكنّ عداء مكشوفاً ومطلقاً تجاه إيران وسورية وحزب الله، حيث كال في بيان صحافي له، اتهامات لحزب الله، بأنه يزعزع استقرار الوضع الهشّ في الشرق الأوسط، وأنه يصعب التفريق بين الجناح العسكري والجناح السياسي للحزب، لذلك اتخذ قراراً بحظر المجموعة كلها.
القرار البريطاني هذا، دفع بوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في شهر أيار، ليحثّ ألمانيا كي تحذو حذو بريطانيا في هذا المجال.
3 ـ تعوّل الولايات المتحدة، ومعها «إسرائيل» واللوبيات اليهودية في دول أوروبا، على تفكيك القرار الأوروبي الموحّد، الذي أدرج فقط الجناح العسكري لحزب الله على لائحة الإرهاب، مستثنياً الجناح السياسي للحزب. فالضغوط ستمارس بشدة، بعد القرارين البريطاني والألماني، على دول فاعلة ومؤثرة داخل الاتحاد الأوروبي، كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وبولونيا، بحيث إنّ لحاق هذه الدول، بركب أميركا وكندا وهولندا، وأستراليا ونيوزيلاندا، وبريطانيا وألمانيا، في إدراج الحزب كله على لائحة الإرهاب، سيتيح الفرصة في نهاية الأمر للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كي تتبع السلوك البريطاني والألماني حيال الحزب، مما سيتيح المجال مستقبلاً للاتحاد الأوروبي، بأن يتخذ قراراً موحّداً وحاسماً في إدراج حزب الله كله بجناحيه العسكري والسياسي على لائحة الإرهاب. بذلك تكون الولايات المتحدة ومعها «إسرائيل»، قد حققت ما سعت إليه منذ سنوات.
4 ـ هناك موجة سياسية أوروبية عارمة، دأبت على إظهار تعاطفها مع «إسرائيل»، وعدائها المكشوف، حيال دول مشرقيّة مقاومة ورافضة لقوى الهيمنة، مركزة هجومها الدائم على إيران وسورية وحزب الله، وهي تهدف من وراء ذلك، إلى انتزاع قرارات حاسمة ضدّ هذا المحور، تحت غطاء ما يمكن للاتحاد الأوروبي ان يقوم به، من أجل تخفيض التصعيد والتوتر في الشرق الأوسط، وما يستطيع أن يفعله لتحقيق هذا الهدف.
في هذا الإطار، نظم مركز بروكسل الدولي، يوم 11 كانون الأول عام 2019، مع كتلة حزب الشعب الأوروبي، الداعم والمؤيد للكيان الصهيوني، ندوة سياسية في البرلمان الأوروبي، تطرّقت الى أبرز أزمات الشرق الأوسط، وتدخلات الدول الأجنبية فيها. علماً انّ مراكز الأبحاث والدراسات والمنظمات غير الحكومية، داخل البرلمان الأوروبي، لا تقتصر على تبادل المعلومات فقط، وإنما لتكون هذه المعلومات، أساساً لسياسات ومواقف يبلورها مستقبلاً البرلمان الأوروبي بقرارات يتخذها على المستويين الرسمي والسياسي.
كان من بين الحضور في الندوة، Marc Otte، رئيس مركز بروكسل الدولي للدراسات، والسفير الخاص لبلجيكا حول سورية، ودانيال كراندلر من مركز الدراسات في باريس، وغيرهم من الباحثين المختصّين في الشؤون الإيرانية والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وشؤون شبه الجزيرة العربية والعراق ومنطقة الخليج. وكانت هناك مداخلة للنائبة اللبنانية بولا يعقوبيان، عبر السكايب، بصفتها نائبة في البرلمان اللبناني، وصحافية، وعضواً ضمن الفريق الاستشاري الخارجي للبنك الدولي حول التنوّع والإدماج. ترأس الندوة النمساوي Lukas Mandl، الذي بدأ كلمته مطالباً الاتحاد الأوروبي بحماية وتعزيز أمن «إسرائيل»، معتبراً أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنّ أمنها امتداد لأمن الاتحاد الأوروبي!
رأت النائبة يعقوبيان أنّ لبنان كان مسرحاً للقوى الإقليمية، وهناك أفرقاء يتصرّفون بالإنابة عن هذه القوى. ومنذ فترة وجيزة، شهدنا كيف انطفأ الدور السعودي في لبنان، وكيف أصبح لإيران تأثير أكبر في السياسة اللبنانية، وكيف أصبح لحزب الله سلطة أكبر في السياسة الداخلية. في السابق كانت سورية تتولى الشؤون السياسية الداخلية في لبنان، أما إيران فكانت تتطلع للقضايا الأكبر كالحرب مع «إسرائيل». أما اليوم، فـ إيران تتدخّل في الشؤون السياسية اليومية عبر حزب الله، الحزب الأكثر قوة على الساحة… ورداً على سؤال حول إمكانية تغيير النظام الطائفي، أجابت يعقوبيان: من الضروري كخطوة أولى، وقف النزاعات الطائفية في المنطقة التي تغذيها بعض الدول التي تتدخل في شؤون الدول العربية، ونذكر هنا إيران وتركيا. وأضافت، انّ «إسرائيل» تلعب اللعبة ذاتها. واعتبرت أنّ سياسات هذه الدول تنافي المصالح الوطنية الأوروبية والقيم الإنسانية، وتؤدّي الى تدمير العالم!
دانيال كراندلر، بدأ كلمته بتوجيه تحية الى النائبة يعقوبيان، على جرأتها في أن تكون موجودة في بيروت، وتتكلم علناً عن حزب الله، معتبراً أنّ مداخلتها سهّلت عليهم، وهم داخل الاتحاد الأوروبي، في قلب أوروبا، والحال ليس كما هو عندما تتحدث من بيروت.
من جهته، اتهم كراندلر إيران بإعادة تسليح حزب الله، في خرق واضح للقرار 1701، واعتبر أنه يستحيل إيجاد السلام، طالما إيران تلعب دور المفسِد من خلال دعمها لحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي. واذا أردنا احتواء الحرب، فيجب احتواء إيران. لأنّ سياسة الاتحاد الأوروبي، الذي يتعاطى بليونة حيال الاتفاق النووي مع إيران غير مقبولة. كما دعا الاتحاد الى احتواء سياسة إيران وأذرعها، خاصة حزب الله الذي يهدّد بصواريخه المسيّرة «إسرائيل»، واعتماد ضربة استباقية تفضي لإدانة حزب الله على انتهاكاته الدائمة لحقوق الإنسان، وتدخله في الحرب في سورية، وتكديسه السلاح، تحضيراً لاستخدامه في ايّ حرب مقبلة مع «إسرائيل».
5 ـ انّ العمل على اتخاذ قرار موحد من قبل الاتحاد الأوروبي، تجاه حزب الله، سيوسّع مستقبلاً مروحة الدول المتربّصة بمحور المقاومة في المنطقة، وبالذات حزب الله. إذ سينضمّ الاتحاد الأوروبي، بعد ان تتهافت دوله على وضع الحزب كله على لائحة الإرهاب، الى مجموعة الدول التي سبق ذكرها، والتي سبقت بريطانيا وألمانيا في تصنيف الحزب، مما سيقوّي النزعة العدوانية للكيان الإسرائيلي، ويعطيه الضوء الأخضر للقيام بعدوان عسكري على لبنان، للاقتصاص من المقاومة، في ظلّ غطاء أميركي أوروبي واسع، مدعوم من دول حليفة وصديقة، بعد أن يستند فيها الجميع الى «شرعية القرار» الذي سبق للمجموعة الدولية ان اعتمدته، والذي يعتبر حزب الله إرهابياً، ويجب القضاء عليه، وإنهاء وجوده.
6 ـ ألمانيا التي كانت وسيطاً فاعلاً وموثوقاً في ملفات مهمة ومعقدة، وأبرزها ملف تبادل الأسرى مع العدو الصهيوني، نجدها اليوم بعد تصنيفها لحزب الله بالإرهاب، تزيل عنها صفة الحيادية والصدقية، وستربك العلاقات الثنائية اللبنانية الألمانية. إذ كيف ستتعاطى ألمانيا مع الدولة اللبنانية، بعد القرار المنحاز، وفي داخل حكومتها وزراء يمثلون الحزب الذي تعتبره إرهابياً؟! وهل ستكون الحكومة مطعّمة بالإرهاب وفقاً للمنظور الألماني؟! وهل سينظر إليها على أنها داعمة «للإرهاب» وراضية بوجوده ومنسِّقة معه؟! إنّ القرار الألماني الذي يصنف حزباً يحارب قوى الإرهاب في الداخل وفي المنطقة، ووضعه على لائحة الإرهاب، انما يخدم بصورة مباشرة وغير مباشرة، قوى الإرهاب الحقيقية ورعاتها وداعميها، والتي لقيت وتلقى الدعم المتواصل من دول غربية، تريد تفتيت دول المنطقة المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، والمتصدّية لنفوذ قوى الهيمنة والتسلط.
7 ـ إزاء القرارات المتتابعة ضدّ حزب الله، لا يمكن للدولة اللبنانية بعد اليوم أن تظلّ مكتوفة الأيدي، وتكتفي بتصريح من هنا، أو بأسف من هناك. لأنّ الحزب ركن أساسي، ومكوّن هام من مكوّنات الحياة السياسية اللبنانية، وهو إحدى الركائز الضامنة لاستقرار لبنان وسيادته. لذلك انّ القرار الألماني الأخير، له تداعيات سلبية على لبنان ودول في المنطقة، وتأثيره المباشر على الداخل اللبناني، وعلى العلاقات الثنائية بين البلدين، وأيضاً، على العلاقات الألمانية ـ العربية في المنطقة المشرقية، نظراً لما يمثله حزب الله من انتشار ومكانة كبيرة في المنطقة. ولدى شريحة واسعة من الشعب اللبناني، ودوره الرئيس في محاربته ومقاومته لقوى الإرهاب في الداخل والمحيط، ووقوفه بجانب الجيش في الدفاع عن لبنان وسيادته. لذلك، إنّ القرار الألماني لا يمسّ الحزب وحده، إنما يمسّ بالصميم الشعب اللبناني والدولة كلها، حيث حزب الله جزء لا يتجزأ منها، وكرامته من كرامتها، ولا يمكن فصله عنها في الأوقات الحرجة.
8 ـ لبنان، الذي هو أمام قرارات تطاله من خلال مكوّن أساسي من مكونات الدولة، لا بدّ له أن يقف وقفته الشجاعة. فإما أن يرضخ ويقبل بالقرارات الغربية المنحازة ومفاعيلها، وإما أن يبحث عما يحفظ ماء وجهه وكرامته وسيادته. فإذا كان يتوجّس خيفة من التداعيات والخسائر، فإنه لم يبق لديه ما يخسره. فالأبواب كثيرة، والأصدقاء كثر، إذ بإمكانه إقامة نوع من التوازنات والمعادلات في تعاطيه في علاقاته مع دول العالم الصديقة، بدلاً من اعتماده ورهانه على جهة واحدة، تريد ابتزازه، وممارسة الضغوط عليه، للسير في مشاريع سياسية ومالية واقتصادية وقانونية، تصبّ في نهاية المطاف، في صالح العدو «الإسرائيلي»، وصالح رعاته وداعميه.
فهل باستطاعة لبنان، اتخاذ قرار شجاع يحصّن من خلاله وحدة شعبه، ويجنّبه المزيد من الابتزاز والضغوط والتسلّط، أم اننا بانتظار قرارات أخرى مماثلة، تصدر لاحقاً عن دول تمرّ على اللبنانيين ودولتهم مرور الكرام!
*وزير الخارجيّة الأسبق.