جهل بالمعرفة… استخفاف بالحقيقة
} سرجون آشور (أبو واجب)
ما أكثر دور النشر في مجتمع الحرف، وما أكثر الشرائين!
ما أكثر الشرائين وما أقلّ القراء!
ما أقلّ القرائين وما أكثر الذين يعرضون في ردهات استقبالهم مكتبات تعجّ بمئات الكتب، تدفعك عند رؤيتها للظنّ، أنّ مالكها بالتأكيد، رجل ذو مستوى عالٍ من المعرفة والثقافة المرموقة.
في إحدى زياراتي إلى الوطن الأمّ، زرت أحد الأصحاب، حيث كان جالساً وأسرته مع شلة من أترابه، أمام شرفة منزله، وإذ به يدعونا للدخول إلى ردهة الضيوف، علماً أننا كنا في أيام الصيف، والجلسة على الشرفة تشرح النفس بهوائها العليل…
بادرته بقولي إنّ الجلسة في الخارج ممتازة، وأنا أتيت لأراكم، وسيان عندي أين أجلس، المهمّ رؤياكم.
كرّر إلحاحه، فدخلت…
من طبعي، أنني ضعيف أمام صديقي الوفي (الكتاب)، هذا الذي يعطيك كلّ ما لديه دون قيد أو شرط، ويجعلك تنهل منه ما شئت، ويترك لك حرية البوح بما تفصح وكيفما تفصح.
وجدت نفسي أمام مكتبة فيها ما لا يقلّ عن الألف كتاب، فقلت له: شيء رائع، يبعث في نفسي طمأنينة؛ هل تسمح لي أن ألقي نظرة؟
فبادر بالترحيب.
ألقيت في البداية، نظرة عامة على أسماء الكتب، قبل أن أتصفّح أيّ منها، وإذ يقع نظري على كتاب… وهو كتاب قيّم سبق لي أن قرأته، فقلت: إنه كتاب هامّ، هل قرأته؟
فقا: بالطبع، قرأته وقرأت باقي الكتب أيضاً! سررت له.
تناولت نفس الكتاب، وددت أن أعيد قراءة بعض المقاطع، التي جذبت انتباهي عندما قرأته سابقاً، وإذ بي أرى أنّ العديد من الصفحات ما زالت ملصقة بعضها ببعض، وكأنّ الكتاب لم يُفتح من قبل.
أرجعت الكتاب إلى مكانه، دون أن أنبس ببنت شفة.
تناولت كتاباً آخر وقلت له: وهذا أيضاً كتاب شيّق، أجابني فوراً قبل أيّ سؤال: أيضاً قرأته!
تصفّحت الكتاب، وفوجئت عندما رأيت ما رأيت في سابقه.
سحبت الثالث… أيضاً.
التزمت أدب صمت الضيافة، ووجهت نظري نحو بعض الكتب الشبه مبعثرة بترتيبها، وكانت قصص لبني عبس، وبني ربيعة، وبني هلال، وقصص شرطية (أيّ بوليسية)، وقصص صورية للأطفال، فرأيت أنها من كثرة استعمالها، أصبحت صفحاتها على وشك الانفصال بعضها عن بعض.
حينها تأكدت أنّ في أغلب مجتمعاتنا العربية، كُثُرٌ هم من يطلبون الثقافة بمظاهرها الوهّاجة، وليس بمضامينها الثمينة!
نقرأ قصص حروب ما قبل الجاهلية التي أصبحت من مآثر ماض دفين، تعدّته حضارات البشرية بأربعة عشر قرناً، ونظنّ أنفسنا اننا أصبحنا محللين سياسيين ونقاد فكر وأدب وسياسة.
وهنا تكمن المصيبة الكبرى الجاثمة على كاهل مجتمعاتنا!
قرأت منذ فترة، مقالة للصحافي الراقي والمناضل والإعلامي والشاعر المرهف الأستاذ زاهي وهبي يتكلم فيها عن فكر الفيلسوف والزعيم النهضوي الريادي أنطون سعاده، والمقالة بعنوان (العودة إليه)، ومن بعض ما ورد فيها: (ذكرى استشهاد سعاده، تشكل جرس إنذاراً للقوى التنويرية والعلمانية، لاستنهاض نفسها، والقيام من كبوتها التي طالت، وإجراء مراجعة نقدية للتجارب الماضية، وإيجاد تيار يجد في فكر سعاده نواة صلبة، تتلاقى مع القوى التنويرية على امتداد العالم العربي.
ويختتم بالقول: (سعاده بفكره المتنوّر، ليس لنا إلا أن نستلهم من إرثه الفكري النضالي، نموذجاً في المواجهة والمقاومة، حتى ينتصر النور على الظلام، وهذا فاعل لا محالة).
فلِمَ قامت القيامة ولم تقعد من قبل بعض المغرّدين؟
لا أريد أن أصدم أحداً بتعليقي، بل أكتفي بالقول: إن أصحاب الفكر السليم والنبيل، ينظرون إلى الأمور بمنظور العقل والحكمة، ويعلمون أنّ الفكر يتطوّر ويتجدّد دائماً عند أصحاب العقول السليمة، نحو الأسمى والأنبل؛ والواثق من نفسه، هو من يُفصِح بكلّ كِبر عن الأفضل، حتى ولو كان صاحب نهج خاصّ ومستقلّ، وهذا ما أكده لنا فعلاً وليس قولاً فحسب، المناضل الراحل المرحوم جورج حبش العام 1977 بقوله: (لقد هدرنا خمسين عاماً من النضال ونحن نصرّ على صوابية رأينا، كان من الممكن أن نختصرها ونقرّ بأولوية وأحقية وأهمية ما قاله أنطون سعاده، حول وحدة سورية الطبيعية، وأولوية العمل لهذا الهدف).
سأكتفي بهذا، مع أملي أن لا نتسرّع بالتغريدات البعيدة عن مسلكية تفكيرنا ورؤيانا لسلوك لطريق الحق السليم…