باقــات 3
} مصطفى بدوي*
ابتهالات سريانيّة:
يا أبانا الذي في الأعالي:
سئمنا الايديولوجيا والقصائد والبكاء..
سئمنا المقاهي والفجائع والندوب الموغلات في دمنا..
سئمنا التردّد والتهتك والتسكع في الموائئ والمدارات..
سئمنا الطائرات المغيرة والأضاليل..
سئمنا أوجه الشعراء العبوسة وهم يلقون بفائض ترهاتهم العرجاء للقطط..
سئمنا زعماء القبائل وهم يتبارون في مطاردة الوشايات وشيوخ الوضاعة وهم يجادلون في أحقيّة المخيم في الهواء المعلب في الكوابيس..
يا أبانا الذي في السماء:
سئمنا التفاسير والتآويل والثآليل والممكن والكائن والمستحيل..
سئمنا السأم وما خلف السأم..
ما قبل السأم وما سئم السأم منا ولا تسامى الألم إلى سماء العدم..
***
نكاية في القصيدة:
بطبشور الألم سوّيت طلائع الخطوة الأولى..
انتخبت الفراشة في يتمها
وأويت المسافر إلى ما يقي ظله من ظله
كلما رجّ عشب البراري عرجون نار..
تلك الدياجير أثرتها مذ كان مهيار يحبو نحو متراسه
أو كان يحشو بالجنون زناده
قد كان جرحاً غامضاً سكبته أباريق الغبار
على رؤوس العائدين إلى حتفهم من حروب لم تدر إلا في همهمات الخيال الموجعة
– ما الذي في ترجمان الأفق يرنو؟
–لا شيء.. لا شيء يا سيدي يرسو على مقعد الريح سوى غفوة عابرة!
***
بكاء بين يدي مريم المجدلية:
ببنادق صدئة
يطلق الليل عليَّ النار..
فيغمى على فكرة مزهوة في مزهرية الخيال..
أرممها بما ألفت رؤاي.. أهدهدها بريش الجموح إلى قرطبة.. والصمت باب يرج الزوايا فتصحو المسافة مخفورة بالنحيب..
– تلك الشظيّة لم تصبني.
قالت إمراة قشتاليّة في رواية مهملة..
وذاك الحصى وتر في الهشيم
فما الخراب العظيم الذي قد يهزّ السيول؟
أصيح محتمياً بشباك البكاء: هل رآك الحفاة يا مريم المجدليّة هل رأك الحفاة.. وأنت تخبئين بين الشقوق أو بين الضلوع صرير القيامة والجلجلة.
يا مريم المجدلية ضمّدي دمعة الصخر، وأنت في حضرة الصمت، بالحناء..
واتركي الريح تمشّط نجمة ساهرة
يا مريم التي قد تراوغ أسماءها أو تراوغني
هذا أوان الحشود النافرة
فانتخبي زهو الفراشات
عساها تعضّ ركاكة الوقت
والمدن الفاجرة !!!
***
تعلمت – في ما تعلمت – درس الألم:
يكفيك يا هذا الجسد المفرَغ في أرشيف العلل أن تواصل رحلتك الضنكى وأنت تئن تحت سياط الروماتيزم الذي تزمجر جمراته في مفاصلك المنهكة.. يكفيك أن تتذكر تلك الليالي الباردة إذ كنت تعوي كجرو لسعت ركبتيه نيران برد قارس حين كنت تعبر شتى الجغرافيات المطفأة..
كنتَ شبيهاً بطفل أخضر ناصع البهاء ألقوا به في جب مليء بالعقارب والأفاعي والهدف: أن يتعلم جيداً ابتلاع لسانه الطويل والتوقف عن جرأته الزائدة!
في قلعة منفى صحراوي بعيد، التهمت الكثير من الروايات كي تبدّد لوعتك الضامرة ومسابح من النبيذ الرخيص درءاً للسهاد.. النتيجة طبعاً أن داهمك قولون فظيع على مرأى ألم فادح وأنت تتأمل خساراتك اللامتناهية:
رسالة جامعيّة تخليت عن إتمامها وحبيبة ضيّعتها أو ضيّعتك وأحلام شيّعتها نحو الوداع الأخير وأنت تشعر بطاحونة الندم تسحق ضلوعك لتجهش بالألم!
وحده القولون كان ميراثك الجديد فاتفقت معه على هدنة أبدية ملزمة للطرفين: ان تتعايشا بسلام أو خصام – سيان!
هل تذكر الآن يا صاحبي ليالي ايغرم واسافن؟ زمهرير تارودانت؟ أولاد تايمة؟ وهزيع انزكان؟ وجبال امسكرود؟
هل ما زلت تستعيد صور باب دكالة وأنت ترتمي في مقهى المحطة في آخر الليل منتظراً حافلة مهترئة تقلك نحو أكادير؟
أما زال نخيل فم زكيد يشرئب بأعناقه وجذوعه في ناظريك وأنت تمخر أرض العزلة واليباب؟
أما ما زالت منعرجات تيزي تيشكا تلقي برعبها على أحلامك الطازجة أعني كوابيسك؟
أكيد أن لا أحد يستوعب ما رشقك به من رماح الضيم والظلم دهاقنة القرف، لأنك لم تفهم اللعبة مبكراً وصدقت عنفوانك المزدهي بالأفكار الكبيرة التي علمتك إياها الكتب.. لم تكن تتقن كالآخرين تماماً درس الحذر. ذاك ذنبك في مهرجان الفخاخ. لكن.. ماذا تعلمت من كتاب العبر؟
تعلمت أن الحياة أرجوحة مجنونة تجهد الحالمين وتهدي التافهين موائد مجزية باذخة. فالحياة لا تتطلب منك ذكاء خارقاً ولا جهداً مضاعفاً، إذ يكفيك أن تكون غبياً ومهادناً لتقطف ما تشاء من لوزها أو موزها…
تعلّمت أن العزلة هي المأوى لكل من طوحت به أعاصير التعب وصحارى الضجر.. وأن الآخرين يتكتلون ضدك حين يتهيأ لهم أن ذكاءك قد يعري تسطيحهم وهراءهم.. حين تشكل في منظورهم حالة منفلتة فيشرعون في الاجتهاد بحثاً عن تعداد مساوئك وإقامة مداخل لتدميرك.. تعلمت – في ما تعلمت – أن هناك فيالق من الذباب تحمل ما يكفي لتسميم أوكسجين الكون كله وإبادته عن بكرة أحلامه…
تعلمت أن الحب مقصورة محفوفة بالارتجاج ومفتوحة على كل التوقعات فقد لا تضمن متى يحين موعد نزولك في محطة مقفرة!
وأن البسمة ليست دائماً نابعة من بستان الدواخل كما اعتقدت واهماً ذات وهم. فالمشاعر مجرد بورصة متغيّرة بتغير المصالح في سوق تبادل الأضاليل!
تعلمت بحكم الطعنات أن الشعراء هم أكثر الوعول عدوانية وأن أغلبهم يكتب بمداد الحقد والمكر لا بحبر القلب وجرح العطر… وبنفس القدر، تعلمت أن الكتبة جبناء متزلفون إذ كلما وجدوا فرصة سانحة لسحلك، فإنهم يمارسون ساديتهم عليك بتلذذ مرضي رهيب!!
تعلمت أن أهازيج طفلة معدمة حافية يتيمة في أعالي الأطلس أبلغ وأصدق سمفونية قد نطقتها اوركسترا وجع عظيم وأن مرافقة البسطاء أعمق من مجالسة الأدعياء لأن عنادل الصدق وفراشات الدهشة لا تحطّ إلا على مزهريات قلوبهم دونما مساحيق ولا تنميقات مصطنعة..!
تعلّمت – وهذا هو الأهم – أن الأمومة وحدها هي العملة الأزلية النادرة في لعبة الحياة الزائفة وأن الخطيئة بنت الحكمة وأن الحكمة لا يفقهها الوثوقيّون السفلة !
تعلمت – أخيراً – أن التكتلات مجرد حفلات تنكرية يفجر أرجاءها اول مسدس مصلحي وان التدافع نحو الصفوف الأولى لوثة عربية بامتياز تؤجّجها حاجة مرضية في التنكيل بالآخرين وترميم ما تداعى في الدواخل أو ما تعفن من شرايين!!!!
***
فائض الزرقة:
صباحك أزرق
والصمت أزرق
الغوايات زرقاء
الثلج أزرق
كل هذا التيه أزرق:
الصداقات.. القصائد.. المساءات.. عيد الفصح.. ثآليل البلاد.. والمعاني جلها زرقاء.. زرقاء مثل الأزرق المغرورق في زرقة الليل..
الهواء أزرق
وداع الحبيبة..
بقايا الذكريات…..
كل هذا العمر أزرق
والشاعر المفتون بالبحر… أزرق.. أزرق مثل المساء!!!!
***
*شاعر وناقد مغربي.