التشكيليّة سيلفا جي… تجريبٌ فنّي يصادق البيئة!!
طلال مرتضى*
من المؤكد أن التجربة التي سأتناولها في هذا المقال قد ذهبت في معطى نتاجها الفني نحو أماكن غير التي تطرّقت لها في مقالاتي السابقة.
وذلك لأن التشكيلية البلغارية النمساوية سيلفا جي، تقدّم من خلال عملها الإبداعي تجربة فنية مبتكرة ولافتة ومألوفة. فقارئ عملها الفنّي لا يمكن أن تخونه الذاكرة القرائية، حين يقبض على حال التضاد في العمل الواحد «الحديث والقديم» حيث يتّحدان معاً، الحديث التي أرادت من خلاله تقديم
«سيلفا الرسّامة» وقبل ذلك الإنسانة. وهذا قبل الولوج إلى المنحى القديم، لتعيد إليه حضوره بعد انفلات طفرة مجنونة من المدارس والمذاهب الفنية..
دأبت سيلڤا الفنانة على بناء جسر فنّي من خلال روح سيلفا المرأة والإنسانة يصل بين ضفتَي الحاضر الذي يمثلها والماضي التي تعدّه الحجر الأساس لتجربتها.. لهذا وعندما اتجهت نحو «تكنيك الكولاج» لتقوم بتجريبه وضعت حدوداً لذاتها، تلك الحدود التي تقدم من ورائها نفسها كفنانة تشكيلية ومبدعة وليست مقلدة أو متكئة على نمط أو مذهب فني ما يجعل من فنها في عيون الرائي مطروقاً ومتداولاً..
لهذا وحين شعرت بأن «تكنيك الكولاج» يتماهى مع ما تريد إنتاجه داخل إطار اللوحة الفنية، لم تتردد للحظة بارتكاب هذا الإثم الشائق واللافت، وقت جربت الكولاج في لوحتها، ولكن في طريقتها هي، لتترك لنا كمتلقين أن نقف أمام عمل فني كامل الدلالات وإشاراته بينة وترميزه مقروء، لكن بطريقة مغايرة، لا تشبه عما كنا نتداول أو نلتقطه في أيّ عمل فني آخر..
فالكولاج وكما هو متعارف عليه كتكنيك فني قديم جداً ابتدعه في عصور سابقة من قبل الصينيون واشتغلوا به لمدة طويلة قبل أن يعيده الفرنسي الكبير جورج براك وصديقه بيكاسو وبقوة إلى دائرة الضوء، وهو يعتمد على إدخال العديد من الأشياء إلى مكونات اللوحة الفنية، مثل القصاصات الورقية أو الجرائد والصور الفوتوغرافية والخيوط وغيرها. وهي فعالية مهمة تشجّع على إعادة تدوير الأشياء التي بدأت تشكل عبئاً بيئياً، لتصبح من أشياء عدمية إلى حالة جمالية مبهرة ومدهشة..
في تجربة «سيلفا جي» ما هو مفارق لما تطرقت إليه أعلاه، حيث إنها جربت لبناء لوحتها بطريقة مختلفة، من خلال عودتها إلى الطبيعة البكر لتأخذ منها مكوّنات عملها الفني، فهي لم تقترب بتاتاً من المخلفات الصناعية التي تكون ـ وفي الغالب ـ منفرة خلال تجييرها لعمل فني ما، وهنا الفرق أن نجد عمل فني هو «صديق للبيئة» يوظف في مكانه الصحيح داخل مربع إطار اللوحة، لهذا كان اعتمادها الكلّي على لحاء الأشجار وريش العصافير ورمال الشواطئ الناعمة وكذلك الحلزون والقواقع البحرية وغيرها، هذا ومن دون أدنى شك يقع تحت عتبة ما يطلق عليه «تكنيك الكولاج»، لكن وبالمطلق لم يفتها وكي لا يتم رد دلالة لوحتها لتكنيك الكولاج وحده قامت برسم ما أخذته من الطبيعة بريشتها في لوحة الكولاج ذاتها، فنجد على سبيل المثال، القواقع الطبيعة التي ألصقتها على القماش تساوقت معها برسم شبيه مطابق وبالتدرّج اللوني ذاته للكولاج الطبيعيّ. وهذا ما يصنع في عين القارئ الرائي الانبهار..
لكنها وتحت مسمّى فنانة تشكيلية لم ترد الانحياز إلى مدرسة أو مذهب فنّي بعينه، بل ذهبت لتبحث في تجربتها عن سليفا المرأة، المرأة التي تخضع لكل طقوس الحياة، العاطفة، الحب والولادة.
لهذا وعندما تتجه بوصلة القارئ نحو تناول تجربة سليفا من زاوية مختلفة، لا يعدم وسيلة لإيجادها بكل لوحاتها الأخرى، تجسّد فيها أنوثتها وأمومتها وتواتر عواطفها كامرأة صانعة للحياة والتي يتمّ القبض عليها بتهمة الإبداع من خلال ما تفضي إليه دلالات اللون في كل عمل، وهذا ليس بخافٍ في تشكيلها لأطوار الحلزون وتطور دورة اكتمال حياتها..
وهو ما يشي بأن الرسّامة «سيلفا جي» تمتلك حيّزاً ثقافياً واسعاً منفتحاً وارتباطاً وثيقاً بالأرض والطبيعة التي تعتمد عليها لتجسيد أفكارها إلى أعمال فاعلة تتماشى مع حركة الوقت المتبدلة والطقس.
وفي عملها الأخير والمعنون «كورونا» تبدي كثيراً من الاختلاطات الحسيّة واللونيّة في هذا العمل، والتي تجلّت بإفراز حالة الخوف من خلال الدلالات اللون الواضحة «أحمر غامق»، هذا عدا عن الارتباك الحسّي الذي تجلّى على شكل لطشات متفاوتة من ريشتها المترددة، حيث بدت هناك مساحات كبيرة وشاسعة من القماش غير مرتوية من زيت اللون..
مما لا شكّ فيه وكي أكون منصفاً، اعترف بأنه لا يمكن الإحاطة بِتجربة فنية كاملة بعدد من السطور في مقالة صحافيّة، ولكنني حاولت ما استطعت أن أتسلل من خلال فتح كوة الضوء المخبوءة داخل إطار اللوحة الفنّية.
* كاتب عربي/ فيينا