هذا ما سمعتُه عن المطران كبوجي من الأمين بديع الشدراوي والرفيق عزيز إبراهيم الشرفاء دائماً حاضرون حتى وإن رحلوا عن الوجود
} يوسف المسمار*
في 28 نيسان 2020 غيّب الموت في البرازيل، الأمين بديع الشدراوي الجزيل الاحترام والعاطر الذكر، وهو من المناضلين القوميين الذين أدّوا أدواراً كبيرة في مقاومة الاحتلال.
قبل رحيله، تلقيت منه اتصالاً يشكرني فيه على نشر قول أنطون سعاده «العالم كله بحاجة إلى فلسفتنا» بلغات عدّة، وقال لي: «أحسنت يا رفيق يوسف. يجب أن يعرف العالم كله مَن هو أنطون سعاده ومَن هم نحن تلامذة أنطون سعاده الأوفياء النظاميون المناقبيون في الحزب الذي أسسه لنهضة الأمة السورية وماذا أعطت الأمة السورية الحضارية للعالم». وقد شكرته وأكدت بأن «حزبنا مدرسة حياة مَن نجح فيها تخرّج وتألّق، ومن استهان بها فشل وأخفق».
وخلال الاتصال أتينا على ذكر المطران ايلاريون كبوجي فقال لي الأمين بديع: «المطران رفيقنا وأنا أعرفه وأعرف أشياء كثيرة عنه قام بها من أجل الحزب والأمة. وقد كان ملاحقاً أثناء الانتداب الفرنسي ولم تتمكن السلطات الفرنسية من معرفته والقبض عليه، لأنه كان يحمل اسماً آخر هو اسم الرفيق جورج ينشط به حزبياً غير اسمه بالإضافة الى جانب نشاطه الديني». وقال لي الأمين بديع بأنه سيرسل كل ما يعرفه عن المطران كبوجي لتضمينها في مقال أكتبه، لكن القدر خطفه قبل أن يزوّدني بالمعلومات.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى المقابلة التي أجرتها الإعلامية جودي يعقوب مع المطران كبوجي وفيها يقول: «إنّ حل الأزمة السورية يكمن بالفكر السوري، فكم نحن بحاجة إلى كل المنادين بفكرة وحدة الأمة السورية مثل أنطون سعاده، لأن الرهان اليوم هو على الذين يؤمنون بفكرة الوحدة، من أجل أن نرتقي بسورية نحو الخلود».
وما يؤكد انتماء المطران كبوجي أنه كان يحبّ العرب ولا يحبّ الأعراب، ويقول بالعروبة العربيّة التمدنيّة العلميّة الواقعيّة الصحيحة ولا يقول بالأعرابية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى ما جاء في محاضرة سعاده التي تحت عنوان «الاتحاد العملي في حياة الأمم» في النادي الفلسطيني سنة 1933: «وهل يضيرنا ان يكون بعضنا عرباً والعرب برهنوا بفتوحاتهم وما أدّوه للمدنية من خدمات أنهم شعب لهم مزايا تمكنه من القيام بأعباء المدنية متى وجد في محيط صالح. فالعرب في الأندلس – والسوريون كانوا يشكلون قسماً هاماً في الأندلس ضمن التسمية العربية – كانوا من أهم عوامل ترقية المدنية في العلوم وإطلاق حرية الفكر حتى أصبحت اللغة العربية لغة العلم في الشرق والغرب».
عروبة المطران كبوجي هي العروبة الواقعية العلمية التمدنية الصحيحة وليست العروبة الطائفية اللغوية الوهمية المتخلفة الزائفة. وقيامة العالم العربي وجبهة المجتمعات العربية لا ولن تتحققان بالطائفية المكفّرة، واللغوية المتبجّحة، والأوهام الخرافية، والتقهقر الأخلاقي المدمّر، بل تتحقق بالمفهوم السوري القومي الاجتماعي ومبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته وبالعقلية المناقبية القومية الاجتماعية.
وفي هذا السياق يقول المطران كبوجي للإعلامية يعقوب إن مَن يقرأ كتاب المحاضرات العشر «بتأنٍّ وتمعّن وتدبّر يفهم معنى العروبة الواقعية الصحيحة ويهجر العروبة الطائفيّة اللغويّة الوهميّة. وهذا هو إيماني لأن العروبة الواقعية العلمية هي لخير سورية ولخير العرب. وسورية القومية الاجتماعية هي لصالح العالم العربي كما هي لصالح سورية».
لقد كان للمطران كبوجي نوعان من النشاط في حلب: نشاط ديني علني ونشاط سوري قومي اجتماعي سري باسم آخر، ولمعرفة سبب لقاء راهب الدير كبوجي بالعمرين: الشاعر عمر أبو ريشة والأمين عمر أبو زلام هي أن الثلاثة كانوا بمهممة إدخال أحد المقبلين على الدعوة القومية الاجتماعية وقد عيّنوا له موعداً لأداء القسم الحزبي. وقبل ان ينطلقوا الى مكان الاجتماع المعيّن طلب منهم الراهب كبوجي أن يرتدوا ثياب رهبان لإبعاد الشبهة عنهم وتوجّه الثلاثة الى المكان المخصص لاداء القسم ومروا في طريقهم في سوق الهال ومعهم القَسَم الحزبي مكتوباً باليد، فظهرت أمامهم وفاجأتهم في السوق دورية من الشرطة الفرنسية فأمرهما المسؤول الرفيق جورج الذي هو الراهب كبوجي أن يخفوا الورقة المكتوب عليها القسم وأن الأمر الذي وجّهه لهما بكل «سلطان ورهبة»، كما ورد في قصة الحزب للأمين الدكتور شوقي خيرالله هو لإخفاء الورقة التي كتب عليها القسم، لأن السلطات الفرنسية كانت تعتبر القوميين الاجتماعيين مخرّبين لرفضهم الاحتلال الفرنسي ومقاومته، وتلاحقهم في كل مكان تواجدوا فيه.
وبالفعل أخفوا الورقة التي كتب عليها قَسَم الانتماء الى الحزب في قلب المكسّرات أو البهارات. وهذه القصة سمعتها من الرفيق الراحل عزيز إبراهيم ناظر إذاعة منفذية البرازيل العامة وهو من منطقة انطاكية والإسكندرون التي تنازلت عنها فرنسا لتركيا.
والرفيق عزيز ابراهيم كان رجل أعمال، وكان يملك مصنعاً كبيراً للنسيج في سان باولو، وكان على علاقة قوية مع الشاعر عمر أبو ريشة والمسؤول الأول عن طباعة خمسين نسخة في كتاب مختارات «من شعر عمر أبو ريشة» الذي وصل الى 300 صفحة عندما قدم الشاعر الى سان باولو كمسؤول دبلوماسي للكيان الشامي السوري وقدّمها كهدية من المؤلف لمستوصف القديس يوحنا في سان باولو – البرازيل. وقد خصّني الرفيق عزيز إبراهيم بنسخة من الكتاب قائلاً لي: لقد طبعنا خمسين نسخة من هذه المختارات من شعر الرفيق الشاعر عمر أبو ريشة. كما أرسل لزوجتي هدية قطعة من القماش المصنوع في مصنعه مع ابنه المهندس بشارة عزيز إبراهيم بعد زواجنا. وفي إحدى المرات التقينا في سان باول بدعوة على الغذاء من الأمين ألبرتو شكور وكان معنا الأمين نواف حردان والرفيق أديب بندقي، قال لي أثناءها الرفيق الراحل عزيز إبراهيم: «لقد حدثني الأمين البرتو أنك تقوم بترجمة مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الى اللغة البرتغالية فسررتُ جداً بهذا الخبر. وأقول لك إن سعاده في قبره يشكرك على هذا العمل».
من أقوال المطران كبوجي
1 – «على أصوات المساجد وهي تصدح الله أكبر، وعلى أصوات الأجراس في الكنيسة، نحن عائدون إلى قدسنا الحبيبة».
2 – «عائدون مهما طال الزمن ومهما بهض الثمن، والحق يعلو ولا يُعلى عليه، وطالما هناك شعب وفيّ هو الشعب الفلسطيني، فحتماً عائدون».
3 – «يسعد صباحكم والله يجمعنا بكم قريباً في الناصرة… فعندما اسمع صوتكم انتعش. أنتم بالنسبة لي أوكسجين الحياة لقد صلّيت في قاعة المؤتمر لسلامة سورية وفلسطين والناصرة وكل بلاد الشام».
هكذا بدأ سيادة مطران القدس في المنفى المطران هيلاريون كابوتشي حديثه خلال مغادرته مدينة مونتريو، حيث شارك في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر جنيف 2 حول سورية.
4 – « لقد صليت ولكن… يد واحدة لا تصفق. فإن لم يبنِ الرب البيت عبثاً يتعب البناؤون… إن لم نرفق العمل بالصلاة فعملنا سيبقى بدون جدوى، لقد كنت داخل القاعة أصلي لربنا رب السلام والمحبة… وحتى يعمّ السلام العالم أجمع، والشرق الأوسط… يعمّ الناصرة وفلسطين وكل سورية وكل بلد عربي، فكفانا عذاباً. كل مدة وجودي في القاعة كنت أصلي من أجل السلام في العالم أجمع ونجاحه في فلسطين وفي الناصرة وفي كل سورية».
5 – «أنا رجل دين الله رب العالمين، ورجل دين الله هو أيضاً مواطن، وحب الأوطان من الإيمان والذي لا يحبّ وطنه، لا يحبّ ربه. وايماني بربي هو من محبتي لوطني».
6 – «وردًا على سؤال عن مشاركته في افتتاح المؤتمر وجلوسه على طاولة الوفد الرسمي السوري قال المطران كابوتشي: «نعم نعم.. كنتُ جالساً ضمن الوفد السوري الرسمي».
7 – «وتابع المطران كبوجي: «لقد حضرت بتلقاء نفسي دون دعوة من أحد.. أنا لست بحاجة لدعوة من أحد لأذهب وأصلي وأعمل من اجل السلام لبلادي ولشعبي ولخلاصهما من القتل والدمار والإرهاب.. نعم رحت الى هناك الى سويسرا ومنها أنا مستعد للذهاب الى اي مكان في العالم من اجل السلام..».
8 – « وعن مفاجأة الوفد السوري واستقباله له قال المطران كبوجي: «ما بتقدر تتصوّر. أنا عشت السماء على الأرض. مباشرة احتضنوني ضمن الوفد… كانت سورية أمامي بشعبها ورئيسها متألقة.. سورية كانت في السماء. سورية رغم كل الجراح تتأمل خيرًا. فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. وحبة الحنطة إن لم تمُت في الأرض لا تُنضج سنبلة. سر الحياة وخصبها أنها تموت. وإنما هي تموت لكي تعيش، هكذا هي سورية شكلاً وروحاً».
9 – «سورية هي وطني وشعبها شعبي، فإذا لم أعترف بذلك، فأي بلاد أخرى غيرها يمكن أن اعتبرها بلادي؟».
11 – «سورية هي السماء على الأرض وهي دائماً في السماء، ولسلامها دائماً أعمل وأصلّي. فالدنيا لا تؤخذ بالصلاة وحدها، بل بالعمل أيضاً. الدنيا لا تؤخذ بالتمني بل تؤخذ غلابا».
هذا هو المطران كبوجي السوري القومي الاجتماعي الذي قال: «اذا لم أعترف بأن سورية وطني وشعبها شعبي، فأي بلاد أخرى غيرها يمكن أن أعتبرها بلادي؟!».
* كاتب وشاعر قومي مقيم في البرازيل