هل هناك مشروع تركيّ في لبنان؟
ناصر قنديل
– في نظر الكثيرين ربما يبدو السؤال مستغرباً، لكن كثيرين فوجئوا قبل عشر سنوات بوجود مشروع تركي في سورية وصل حدّ تدخل عسكري مباشر، في زمن تحذر فيه الدول العظمى من التورط بتدخل عسكري لجيوشها خارج الحدود. وتقاطع المشروع التركي في البدايات مع المشروع الأميركي وتحول إلى حصان رهانه، لكن عندما تضاربت المصالح حول حجم ونوع الدور الكردي في الحرب على سورية، لم ينطفئ المشروع التركي ولم ينضبط بالمشروع الأميركي، بل استقل بخصوصياته محافظاً على نقاط تشابك ونقاط تعارض مع المشروع الأميركي والمصالح الأميركية. وبنظر كثيرين كان الحديث قبل سنتين عن مشروع تركي في ليبيا مستغرباً، على قاعدة أن سقف الحضور التركي في ليبيا وغيرها ينبع من رهان تركي على الأخوان المسلمين واعتبارهم حصان نفوذ في المنطقة، لكن لم يكن ببال أحد توقع إقدام تركيا على الزج بقوات عسكرية عبر البحار، كما لم تفعل الدول العظمى. واليوم تمثل تركيا لاعباً إقليمياً أساسياً في الحرب الليبية، ويبدو واضحا أن خصومها داعمي الجنرال خليفة حفتر لا يملكون جرأتها وحساباتها لتدخل مشابه لتدخلها فيكتفون بالدعم المالي والتسليحي والسياسي، سواء مصر جارة ليبيا، والمعترف لها بمشروعية التداخل بالمصالح الأمنية مع ما يجري في ليبيا، ومشروعية التفكير بالتدخل بقياس التداخل، أو السعودية والإمارات، بينما غرق السعودية والإمارات في الفشل اليمني لا يفسّر وحده الحذر، باعتبار أن الفشل التركي في سورية لم يردعها عن التفكير في التدخل في ليبيا، بل ربما كان هو حافزها للتعويض عن هذا الفشل.
– متابعة تحرّكات الرئيس التركي رجب أردوغان تؤكد أنه لم يسلم بفشل المشروع الإقليمي لدور تركي في المنطقة، بمجرد سقوط مشروع العثمانية الجديدة، عبر سقوط مشروع السيطرة على سورية، بواسطة الأخوان المسلمين وما توفر لهم في بدايات «الربيع العربي» من قوة وزخم بزواج الغضب الشعبي مع الدعم الأميركي والغربي والخليجي، والذي جرى أن الرئيس التركي أعاد ترتيب مشروعه في ضوء النتائج، فتقبّل الحصول على كانتون تحت السيطرة التركية في سورية بديلاً عن سورية كلها، كهدف سياسي وعسكري للدور التركي في سورية، وطرح مشروع تقسيمها وتقاسمها، ثم تقبل السعي لدور في الحل السياسي والأمني في سورية بديلاً عن الكانتون. وبالتوازي لم تفت في عضد المشروع التركي بحثاً عن دور إقليمي خسائرُهُ في مصر وتونس وسقوط حكم الأخوان فيهما، بل قام أيضاً بالتنسيق مع الأخوان وقيادتهما بإعادة رسم خطة السيطرة على ليبيا أملاً بالعودة منها إلى تونس ومصر، وهو لا يمانع اليوم بمقاسمة ليبيا مع الآخرين والحصول على كانتون في طرابلس، ولن يمانع غداً بشراكة في الحل السياسي والأمني في ليبيا، بعدما يسقط حلم الكانتون.
– في لبنان وخصوصاً في الشمال، نشاط تركي قديم، على نمط تقديم مساعدات غذائية، وإحياء مناسبات دينية، وبناء مستشفيات ومراكز صحية، والاشتغال على الجالية التركمانية خصوصا في عكار، وإحياء اللغة التركية حيث أمكن، وتوزيع الأعلام التركية بالتوازي، وكان لافتاً أن تقوم جماعات ناشطة في الحراك الشعبي منذ تشرين الأول، بتظهير هويتها المرجعية لتركيا، وأن ينضوي نشطاء الأخوان المسلمين في منتديات ترفع لواء «الثورة»، وأن ينتقل عشرات النشطاء من طرابلس إلى بيروت من هذه الجماعات لقيادة أعمال الشغب. كما هو لافت اليوم أن يشكل هؤلاء الإطار المنظم الذي يستند إليه رجل الأعمال بهاء الحريري الهادف لحجز مقعد سياسي في البيئة المتفجّرة والمتشققة لزعامة شقيقه الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، وليس مهماً أن يكون بهاء الحريري رجل تركيا أو لا، بل الأهم أن تركيا تملك خبرة الإستعمال والتوظيف بصورة غير مباشرة فلا تمانع مؤقتاً من التقاطع بالواسطة مع بهاء، منعاً لإحراجه خليجياً، تأسيساً للمرحلة التالية.
– تركيا لن تألو جهداً لالتقاط أي فرصة لبناء نفوذ في أي بقعة إقليمية حساسة، بمجرد التحقق من أمرين، وجود فرصة، وكلفة منخفضة للحضور، ولبنان الذاهب للمزيد من الانحدار الاقتصادي والاجتماعي، فرصة ستتعاظم كلما تفاقمت الأزمة، وزاد الغضب الشعبي من جهة، وضعفت هيبة مؤسسات الدولة ودرجة تماسكها تحت ضغط تراجع قيمة رواتب العاملين فيها من جهة مقابلة، بحيث لا تتماسك إلا المناطق التي تقودها أحزاب ضخمة بمقدرات هائلة كحال حزب الله، وبحيث تتهاوى سريعاً نحو الفراغ والفوضى المناطق التي تعاني الفراغ السياسي في قياداتها، وهذا يجعل الشمال اللبناني مرشحاً قبل سواه لتشكيل فرصة تركيا الجديدة على البحر المتوسط، كيف وأن المال القطري جاهز للاستثمار التنافسي مع السعودية والإمارات المنكفئتين، في لبنان أكثر من سواه، والسعودية والإمارات تعانيان شح الموارد، وتوزع جبهات الاستنزاف، وكيف وأن لتركيا مآرب أخرى تتصل بترحيل المسلحين والنازحين على دفعات من إدلب نحو مكان ما، كان ليبيا، فكيف لا يكون شمال لبنان؟