الاستثمار في الحدود فرصة وحيدة لإنقاذ لبنان؟
محمد حميّة
في ضوء التهليل والتعظيم لخيار صندوق النقد الدولي، بدا أن خيار الانفتاح الاقتصادي على سورية في طور التبلور في دوائر المراجع الرئاسية وقوى سياسية أساسية بحسب معلومات “البناء” تمهيداً لطرحه على الطاولة كخيار رسمي بالتزامن مع مناخات تشجيعيّة عبر عنها السفير السوري في لبنان عقب كلام السيد حسن نصرالله الأخير وأجواء إيجابية متلقفة نقلتها مصادر لبنانية عن الحكومة العراقيّة.
وهذا ما يفسّر تمادي بعض القوى السياسية باستغلال عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية على طول الحدود اللبنانية – السورية وتحميل حزب الله المسؤولية، متذرعة بأن التهريب يستنزف الاقتصاد، علماً أنه موجود منذ عقود وإن كان غير شرعي ويجب ضبطه، لكنه لا يستنزف العملة الصعبة بالشكل الذي يصوّره البعض بحسب الخبراء، لسبب أن التهريب يتم عبر أشكال ثلاثة: تبادل منتجات بين التجار السوريين واللبنانيين وإما الدفع بتبادل العملات الوطنية وإما بالعملة الصعبة.
وفي مطلق الأحوال فإن استمرار القوات وغيرها بإثارة هذا الملف رغم قرارات الحكومة والإجراءات الأمنيّة لضبط الحدود، يخفي أبعاداً سياسيّة تبدأ بتحريض “الخارج لثنيه عن المساعدة والإيحاء بأن التهريب هو أحد ثقوب استنزاف الاقتصاد وأن المال إن أتى فسيقع بيد حزب الله الذي يسيطر على الحدود. كما تهدف الى خلق مادة إعلامية وسياسية يستفيد منها الأميركيون والإسرائيليون لإعادة طرح مشروع تدويل الحدود مع سورية بتوسيع صلاحية “اليونيفيل” لتحقيق ثلاثة أهداف: قطع التواصل بين المقاومة وعمقها الحيويّ، عرقلة إعادة النازحين السوريين، الحؤول دون الانفتاح الاقتصادي على سورية كخيار يسعى اليه فريق 8 آذار ورئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وبدأ يلقى مقبولية واسعة لدى حكومة الرئيس حسان دياب.
فالولايات المتحدة استشعرت، وبحسب معلومات “البناء” نية لدى هذا الفريق للتوجه شرقاً بعد خطابات عدّة للسيد نصرالله وأتبعها النائب جبران باسيل أمس، بدعوة علنية لالتحاق لبنان بالميدان الاقتصادي لدول المنطقة انطلاقاً من سورية فضلاً عن الأهمية الكبرى التي يعلقها الخبراء الاقتصاديون على تحقيق هذا الخيار لجهة نتائجه الاقتصادية الاستراتيجية التي تتلخص بهذه العناوين: تعزيز فرص التصدير الى سورية فالعراق والأسواق العربية، وبالتالي خفض فاتورة الاستيراد وتسرب العملة الأجنبية – استثمار الموقع الجغرافي للبنان لتصريف الإنتاج النفطي العراقي الى اوروبا بتفعيل مصفاة كركوك – طرابلس مقابل تزويد لبنان بالنفط العراقي بأسعار متدنية – حل أزمة النازحين السوريين التي استنزفت حتى الآن 43 مليار دولار إضافة الى مشاركة لبنان بإعادة إعمار سورية المرتقبة.
أما الهدف الخارجي من عرقلة هذا التوجه فهو استكمال سياسة حصار لبنان وتضييق خياراته للخروج من أزمته الى الصفر لإبقاء صندوق النقد الخيار الوحيد وما يرافقه من شروط.
ليس المطلوب شيطنة خيار “الصندوق” لاسيما أن الحكومة التي تعتبر أموال “الصندوق” و”سيدر” محور خطتها لم تفقد الآمال به كخيار للإنقاذ. لكن السؤال: هل فعلاً سيحصل لبنان على هذا الدعم في ظل تدهور الاقتصاد العالمي نتيجة تفشي وباء كورونا! وإذا سلمنا جدلاً أنه سيحصل فما هي الشروط التقنية والمالية وربما السياسية التي يُخفيها (المبالغ ووجهة صرفها ومدة استعادتها…) واستطراداً هل تكفي لإنقاذ لبنان من أزمته؟ وماذا لو طالت المفاوضات سنوات وفشلت ولم تأتِ الأموال ووقع الانهيار؟
فلماذا لم تضع الحكومة الى جانب خطتها الحالية خطة “ب” رديفة تعتمد على الانفتاح على سورية وتجري مفاوضات مع دمشق وبغداد ما يعزّز موقعها التفاوضي مع صندوق النقد الذي سيضطر حينها الى تسريع الدعم وتخفيف شروطه الى حد مقبول؟ لماذا تفاوض الحكومة ضعيفة على اعتبار أن “الصندوق” هو حبل النجاة الأخير؟ علماً أن معلومات “البناء” ترجح أن يمتد التفاوض لسنة في ظل التشظي في الوفد اللبناني والتباين في المعطيات والأرقام، علماً أنه وبحسب مراقبين فقد يكون للأميركيين والأوروبيين مصلحة في دعم لبنان لكي لا يقع الانهيار والفوضى الاجتماعية والأمنية وسيطرة الإرهاب على ضفاف المتوسط أو سقوط لبنان في دائرة النفوذ الروسي كما قال المنظر الأميركي جيفري فيلتمان في أحد خطاباته في الكونغرس منذ أشهر عدة. لكن فداحة الأزمة في لبنان تُشكل فرصة ذهبية للاميركيين ومن خلفهم الاسرائيليين قد لا يفوتونها لفرض شروطهم على لبنان لكسر العقدة اللبنانية أمام تنفيذ صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية. فالأميركيون بحسب مطلعين على السياسة الاميركية في المنطقة، ينتهجون سياسة وسطية مع لبنان عبر “تقطير” الدعم المالي ببضعة مليارات من الدولارات عبر الصندوق و”سيدر” لمنع الانهيار فقط وليس لمعالجة جوهر الأزمة بالتزامن مع استمرار الضغط والعقوبات لفرض الشروط السياسية، وفقاً لمعادلة لا انهيار ولا استقرار.
فبحسب أغلب خبراء الاقتصاد فإن المبالغ المتوقعة من “مكرمات” الأميركيين والأوروبيين عبر “الصندوق” و”سيدر” لا تسد حاجة الاقتصاد من العملات الاجنبية وبالتالي لا تنقذ لبنان من أزمته البنيوية، لا سيما أن الأموال كما تقول مصادر المشاركين في المفاوضات المالية على خط بيروت – نيويورك، لن تأتي دفعة واحدة بل على دفعات – مليارين على “خمس سنوات” الرقم الذي لحظته الخطة الحكومية، وبالتالي لا يمكن توقع نتائج إيجابية لها قبل هذه المدة.
إلا أن الأخطر في خيار “الصندوق” يكمن باستمرار سياسة الاستدانة التي تستند اليها الحكومة لتحميل الحكومات المتعاقبة مسؤولية ما وصلنا اليه! فمنذ العام 1992 انتهج الرئيس رفيق الحريري سياسة الاستدانة على وهم إطفاء الدول الكبرى لهذه الديون مقابل انخراط لبنان في تسوية السلام الشامل في العام 1994 وتزامن ذلك مع تدمير لقطاعات الإنتاج كالصناعة والزراعة والاعتماد على السياحة والخدمات وتحويلات المغتربين والهبات الخارجية، وبعد سقوط السلام عاد الرهان على الاستدانة على أمل الحصول على دعم مؤتمرات الدعم الخارجي “سيدر” الذي تأجل منذ ثلاث سنوات ليعود الرهان اليوم على “صندوق الذهب”… فالرهان على الاستدانة لم يُجدِ نفعاً وبالتأكيد لن يُجدي نفعاً طالما أثبتت التجارب فشله.
في المقابل، فإن الاستثمار في الحدود مع سورية قد يأتي بنتائج أكثر ووقت أقل. فلماذا استبعاد هذا الخيار بعدما سقطت سياسة الاستدانة ومعه النموذج الاقتصادي اللبناني؟ وكيف يمكن معالجة نتائج الاستدانة التي يجمع اللبنانيون على أنها كارثية على الاقتصاد بالاستمرار بسياسة الاستدانة نفسها؟ سيما وأن كلفة الدين العام كانت مسبب العجز الأساسي لخزينة الدولة واستنزاف احتياطات المصرف المركزي!
فهل يكون الحل بالانفتاح على سورية؟
قد يمنح الفريق الداعم لهذا التوجّه وقتاً للحكومة لاستنفاد فرص الحصول على الدعم من “الصندوق” و”سيدر” لكي لا يتحمّل مسؤولية تفويت هذه الفرصة. لكن إذا أظهرت المفاوضات مماطلة في توفير الأموال أو ربطها بشروط سياسية فإن لبنان السياسي والشعبي ذاهب لفتح الحدود السورية أمام الاقتصاد اللبناني. خيار أصبح حاجة ماسة بعد تراجع امكانات الاستثمار في النفط والغاز والاستفادة من عائداته المالية في وقت قريب والنتائج المحدودة لأموال “الصندوق”، لكن المطلوب من الحكومة منذ الآن الإعداد لهذا الخيار عبر وضع ما توفر من إمكانات مادية لدعم المزارعين والصناعيين بقروض لتوفير اكتفاء ذاتي أولاً وللتصدير الى الخارج ثانياً.