انكشاف الاقتصاد التركي أمام جائحة كورونا
} د. هدى رزق
لم تلحق جائحة كورونا أضراراً بالبشر فقط لكنها كشفت سياسات الحكومات في العالم أجمع لا سيما في البلدان التي تدّعي ان المواطن وحقوقه وحريته هي الاساس بالنسبة لها لتنكشف سياساتها الاجتماعية والاقتصادية أمام جمهورها، ربما امتازت تركيا بعنايتها الشديدة بقطاعها الصحي لكن المشاريع الاقتصادية بمعظمها اتكأت على الخدمات وعلى خصخصة القطاع العام وبيعه للقطاع الخاص. وها هي ازمة كورونا اتت لتكشف هشاشة المشاريع والواقع الاقتصادي الذي عزز قطاع البناء على قطاعي الزراعة والرعي وقطاعات منتجة اخرى يمكن للدولة رعايتها.
ألحقت أزمة كورونا صدمة بالاقتصاد التركي الذي يعاني أساساً جراء أزمة العملة منذ عام 2018، ضرب الوباء تركيا عندما كانت مناعتها الاقتصادية ضعيفة. إذ ان الاقتصاد كان في حالة هشة بالفعل، تفيد بيانات البنك المركزي، بانخفاض إنفاق بطاقات الائتمان منذ 11 آذار/ مارس بنسبة 25٪ عن الاسابيع التي سبقت تفشي المرض الذي أضاف حوالي 14 ٪ من العاطلين من العمل، إذ يصل مجموع الأشخاص الذين تركوا عملهم بسبب الإجراءات الحكومية لاحتواء العدوى إلى ما يقرب من 3 ملايين، بالإضافة إلى 4.5 مليون كانوا عاطلين عن العمل بالفعل قبل الوباء.
تمّ إغلاق مجموعة واسعة من الشركات بناء على طلب من وزارة الداخلية. غطى الطلب الأول في منتصف مارس حوالي 150.000 شركة مثل المقاهي والصالات الرياضية ومراكز الترفيه. كما تمّ إغلاق صالونات التجميل والمطاعم. التي يمكن يمكن أن يتجاوز عددها 120،000، كذلك إغلاق ما يقدّر بـ 270.000 شركة كجزء من الاحتياطات.
تقدّمت حوالي 70.000 شركة وهي في حالة سيئة للغاية بطلب للحصول على ما يسمّى مدفوعات العمل القصيرة لأكثر من مليون موظف من صندوق التأمين ضدّ البطالة. حيث يتمّ دفع المساعدة، وهي جزء من لوائح العمل القائمة، على مدى ثلاثة أشهر لموظفي الشركات الذين أجبروا على ترك العمل بسبب ظروف قاهرة. قسم صغير فقط من الناس المتضرّرة تلقى المساعدة من الدولة.
أدّت عمليات الإغلاق إلى نقص العمالة في العديد من الأماكن، مما أدّى إلى تفاقم معاناة المزارعين والصناعات الغذائية. يمكن أن يشكل النقص في المدخلات مخاطر إضافية على الإمدادات الزراعية العالمية ويؤجج تضخم أسعار الغذاء. أصبح القطاع الزراعي، الذي بدأ بالفعل في الانخفاض في السنوات الأخيرة، أكثر هشاشة. لم تتخذ حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان سوى إجراءات سطحية قصيرة المدى للقطاع كما هو الحال بالنسبة لفروع الاقتصاد الأخرى، ركزت الحكومة إجراءاتها للقطاع الزراعي على الحفاظ على استيراد المواد الخام وتعزيز المخزونات، من خلال الواردات على الرغم من ندرة احتياطيات العملة الصعبة في البلاد.
في النصف الأول من العقد الماضي أدّت سهولة الشراء من الخارج بدلاً من الإنتاج في الداخل. وتوفر العملة الصعبة الرخيصة الى الاستيراد، تحوّلت تركيا إلى مستورِد للمواشي والمواد الخام لإنتاج الخضار والحيوان، ومع بدء ارتفاع أسعار العملات الأجنبية في عام 2014، زادت المنتجات الزراعية والحيوانية المستوردة وكذلك المدخلات مثل الأسمدة والمبيدات الحشرية والآلات أصبحت أكثر تكلفة، مما أدّى إلى تفاقم مشاكل القطاع الزراعي وزاد تضخم أسعار الغذاء، وارتفعت بشكل أكبر تحت تأثير أزمة العملة في 2018.
كانت تركيا مصدّراً للخضار والفواكه الطازجة ومستورداً للحبوب والبذور الزيتية. العديد من منتجي الأغذية أصبحوا يعتمدون على القمح المستورد لإنتاج الدقيق والمعكرونة ومنتجات أخرى، مما يعني أنّ الاضطرابات في توريد المواد الخام يمكن أن تؤدي إلى مرافق معطلة في صناعة الأغذية. وأثارت الزيادات في أسعار المدخلات الزراعية، وكثير منها واردات، قلق المنتجين الأتراك حتى قبل تفشي الوباء. حيث ارتفعت أسعار البذور بنسبة 19٪ على أساس سنوي، تليها زيادة بنسبة 18٪ في أسعار الأسمدة، و12٪ في الأعلاف
اليوم وبعد أزمة كورونا، حتى لو كان صناع القرار مستعدّين للمضيّ قدماً في الانتاج المحلي، يحتاج المزارعون المحليون الى دعم من الدولة لكن لا تزال حكومة أردوغان تتعرّض لانتقادات بسبب تركيزها على تدابير لسدّ الفجوة. خوفاً من فقدان الناخبين، يبدو أنها تهتمّ بإرضاء المستهلكين من خلال الاستيراد بدلاً من إحياء الإنتاج، الأمر الذي يتطلب الوقت والصبر.
اما قطاع الطيران في تركيا فهو أصيب بخسائر فادحة شمل شركات الطيران ومشغلي المطارات وهي في معظمها شراكات بين القطاعين العام والخاص. أصبح مطار اسطنبول، الذي عرف جدلاً كبيراً حول جدواه الاقتصادية وكلفته وتأثيره البيئي والذي بدأ العمل في نيسان/ أبريل 2019 يعاني من مشاكل جمة وصعوبات في الخسائر المالية بسبب الوباء. وفقاً لاتحاد النقل الجوي الدولي (IATA)، فإنّ سبل عيش حوالي 65.5 مليون شخص في جميع أنحاء العالم تعتمد على صناعة الطيران، بما في ذلك قطاعات مثل السفر والسياحة، من بينها 2.7 مليون وظيفة في شركات الطيران عبر العالم، في الوقت الذي كان الهدف فيها الوصول الى أعداد كبير من المسافرين عبر تركيا، وبعد أن توسع القطاع منذ التسعينيات، بالاعتماد على موقع تركيا عند مفترق الطرق بين القارات أتت الضربة الوبائية لكي تكمل التقصير الذي عاناه المطار حيث أتت الأرباح أقلّ من التوقعات.
وكانت قد تمّت إعادة هيكلة الخطوط الجوية التركية، ووسعت سوقها، خاصة بين الركاب الأجانب.. لكن تلقى مطار اسطنبول، الذي تمّ بناؤه كشراكة بين القطاعين العام والخاص، ضربات شديدة، بدأ التباطؤ الحاد منذ مارس/ آذار، يبدو من غير المرجح أن تستمرّ الشركة حتى بضعة أشهر دون مساعدة.
خسارة السياح الأجانب وحدها ستسبب انخفاضاً حاداً إذ يعمل في قطاع صناعة السياحة في تركيا ما يقرب من مليوني شخص، أو 6 ٪ من إجمالي العمالة في البلاد، الحكومة أمّنت الذين يعانون البطالة بدفع الحدّ الأدنى للأجور من صندوق التأمين ضدّ البطالة على مدى ثلاثة أشهر. أما بالنسبة للشركات المتعثرة، لم تقدّم أنقرة أكثر من تأجيلات الضرائب وتسهيلات القروض.
يعتبر عام 2020 عاماً ضائعاً للسياحة على صعيد صناعة السياحة العالمية، التي عانت، إلى جانب الطيران، احتمالات التعافي الكامل بعد ذلك تظلّ غامضة.. من المتوقع حدوث أضرار جسيمة في القطاعات ذات الصلة مثل النقل والصناعات الغذائية والزراعة وكذلك القطاعات الفرعية التي تلبّي احتياجات المسافرين. لا يمكن أن يكون الطلب المحلي في تركيا وحده علاجاً لصناعة السياحة نظراً لأنّ حجم مرافقها وقدرتها يعتمدان إلى حدّ كبير على الطلب الخارجي. علاوة على ذلك، عانى المستهلكون المحليون من فقدان الوظائف والدخل من جراء الوباء
كانت تركيا قد حققت في العام الماضي حوالي 30 مليار دولار. هذه الإيرادات الحاسمة من العملة الصعبة، والتي تساعد على تقليل عجز التجارة الخارجية للبلاد وتوازن الحساب الجاري، معرضة الآن للخطر، في ظل انخفاض مثير للقلق في الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي.
تضع الحكومة التركية خططاً لإعادة فتح قطاع السياحة المتضرر من الوباء، وهو مصدر حيوي لعائدات العملة الصعبة للاقتصاد المتعثر، ولكن الصيغ «الطبيعية الجديدة» للسفر والإقامة قد لا ترقى إلى إنقاذ القطاع السياحي. فلقد بدأ أصحاب هذه المراكز المرتبطة ارتباطاً شديداً بحزب العدالة والتنمية الحاكم يطالبون الدولة بإعادة فتح المراكز من أجل جلب المستهلكين واعتماد شروط الوقاية. معظم هذه المرافق بُنيت عبر استخدام قروض بالنقد الأجنبي ومع استمرار الوباء تفاقمت مشاكل العملة التركية.
يكافح أصحاب هذه القروض من أجل سداد الأموال التي اقترضوها. مراكز التسوّق البالغ عددها 450 مركزاً في تركيا أصبحت السمة المميّزة لقاعدة حزب العدالة والتنمية التي استمرت 17 عاماً، حيث انتشرت في أنحاء تركيا كجزء من طفرة البناء التي شجعتها الحكومة. واليوم، يبلغ عددها 125 في اسطنبول وحدها و 436 في جميع أنحاء البلاد. انخفاض قيمة الليرة التركية منذ عام 2016 تركهم يعانون من خسائر فادحة في أسعار صرف العملات الأجنبية.
قبل وصول الفيروس إلى تركيا، كانت «ألتاس» تشكو من «منافسة غير عادلة» من البائعين عبر الإنترنت الذين يمكن ان يتهرّبوا من الضرائب. يبدو أنّ أزمة الفيروس التاجي من المقرّر أن تترك تركيا مع حوالي 10 ملايين شخص عاطل عن العمل، والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنّ العديد من أولئك الذين فقدوا وظائفهم ظلوا بدون تغطية اجتماعية من الدولة، لذلك يطالبون بالعودة الى العمل واتخاذ تدابير الوقاية.