التشكيليّة انكي انكتومين… تشكيل في إطار الخيط وما بعده من معانٍ فنيّة وملحميّة للوحة ورمزيّتها
} طلال مرتضى*
وهذه رحلة أخرى في فضاء الفنون وتنويعاته المتشعبة، وضمن التجارب الفنيّة التي تطرّقت إليها في ما سبق للاطلاع على جانب من الحركة الفنيّة في النمسا.
عاينت هنا تجربة لم أستطع تجاوزها او المرور بمحاذاتها من دون تلمّس حواشي معطياتها ويعود هذا الاهتمام لخصوصيّة تلك التجربة، خصوصية خالصة لذاتها، فهي تنطلق من فكرة فن المشغولات اليدوية او «Handwerk» وخاماتها المعروفة من خيوط وألوان لِتتداخل مع فنّ التشكيل بعينه، ومكوناتها الاساسية من الوان (الأكريليك) والألوان المائية، لتبتكر طريقة ليست كالتي نعهدها من الاشتغالات اليدوية التقليدية..
الفنانة انكي انكتومين وهي نمساوية من اصول منغولية، تقدم تجربة فنية متداخلة وعابرة لكل المدارس والمذاهب الفنية، فهي لا تنتمي لمدرسة بعينها، بل اخذت من كل المذاهب والمدارس معاً، وتعريفها اقرب ما يكون الى تعريف الجنس الادبي ااو تجنسيه في حال كان متداخلاً فهو يكون عابراً للاجناس الكتابية كما تلك التجربة عابرة للمذاهب الفنية..
واصطلاحاً يمكننا التوكيد على انها فعالية فنية قائمة وقديمة فقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً في وقت سابق بالفنان الاميركي روبرت راوشينبرج Rauschenbergh) عام ( 1925- 2008) حيث اطلق عليها اللوحة المدمجة وهي عمل فني يدمج كائنات مختلفة ثلاثية الابعاد في سطح مطلي، مما يخلق نوعًا فنياً هجيناً، تحت عتبة الحدود الضبابية بين الفن القائم على الابتداع والعالم اليومي الواقعي ليعطي أهمية لأشياء عادية يتم إدخالها في سياقها الفنّي.
عملياً تتكئ الفنانة انكي على تكنيك الكولاج كجزء أساسي في بناء لوحتها من حيث استعمالها للقصاصات الورقية او الصور الفوتوغرافية والأشياء الأخرى، لكن مع قليل من الاختلاف لكون اعتماد لوحتها الفنية على مكوّن رئيسي من الخيوط التي نستعملها بشكل يومي للخياطة، هذا حيث يتم لصقها على صدر اللوحة ثم إغراق وجه اللوحة كاملاً في طبقة لونية محددة، وهنا قد يحتاج العمل لطبقات لونيّة تالية عدة.
وذلك حسب رؤية الفنان، لتبدو تلك الطبقات كجزء من ارضية اللوحة وليست شيئاً دخيلاً وهو ما يساعد على تبيان تلك الخيوط وبشكل نافر على السطح، تلك الفعالية بحد ذاتها تمكنها من استعمال عدد كبير من الخيوط وبأشكال مختلفة، كالخيوط العادية التي يتم تسليكها على جسم اللوحة ومنها الخيوط المجدولة بطريقة لولبية ومنها التي يتم تظفيرها لتزيد من جمالية اللوحة. هذا عدا عن تلك الخيوط التي يشبك بها الخرز الملون الناعم قبل تثبيته..
غالباً ما يكون اشتغال تلك الخيوط في تجربة الفنانة انكي لتشكيل اطار اللوحة الفنية لتبدأ بعد ذلك بتكوين جسم اللوحة والذي يعتمد في كثير من الاحيان على لصق هالات كرتونية مشبّعة بكثافات لونية متفاوتة، بداية من تذويب الكرتون ليبدو كجزء من سطح اللوحة وهذا ما يجعل الامر ملتبساً في عين الرائي، لتبدو تلك الكتل وكأنها تعرضت للضغط بالوزن من الجهة الأخرى او كالبلاستيك الذي يتم اشتغاله والزجاج بطريقة النفخ بعد تعرضه للحرارة..
الصعوبة الكامنة في هذا النوع من الاعمال، أنه يخضع لسلطة وقت طويل، فالعمل الواحد قد يحتاج لشهر قبل اكتماله من باب ان الكتل اللونيّة التي تجلّت على جسم اللوحة، كل طبقة منها تحتاج إلى وقت قبل البدء بإعطائها طبقة أخرى..
هذا العمل يعتمد اولا على ارضية مخصصة من الورق المقوى او الألواح الخشبية القابلة لامتصاص زيت اللون او الصمغ على عكس الفنون الأخرى التي يستعمل فيها القماش او البلاستيك المطعم بالخيوط..
فنياً، ما يميز تجربة الفنانة انكي عن غيرها ممن يشتغلون بتلك الفعالية الفنية، ففي رحلة بناء لوحاتها تعتمد على مخزونها التراثي وموضوعات تقترب من الأسطورة.. فقصص الملاحم تتجسّد في صور التنين وعمليات صيد الغزلان والحيوانات البرية والخيول والبطولات وغيرها. وهذا ما يشي إلى احتوائها على عمق ثقافي ودراية في تلك الأشياء، فالملحمة والأسطورة هي جزء أساسي من مكون وتاريخ الشعب المنغولي، وهذا ما يجعلها حاضرة فعلياً في المعطى االادبي والفنّي للكتاب والرسّامين المنغوليين على وجه سواء.
تلك الفعالية التي اعدّها حركة فنية تقليدية نسوية بامتياز، ففي ولاية ڤرجينا حيث كان هذا الفن رائجاً ويسمى (فن نسيج الصداقة) اسهمت في تطويره الأميركية الدكتورة ميمي شيكيت (Mimi Chiquet) وجعلت منها فناً اجتماعياً حقيقياً ثم تعزز حضوره في الستينيات والسبعينيات ليذهب نحو الاحترافية في الثمانينيات.
* كاتب عربي/ فيينا.