أفكار حول تحوّل لبنان من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج
} زياد حافظ*
الأزمة الاقتصادية اللبنانية تفاقمت مع جائحة الكورونا وتعنّت القطاع المصرفي بشقّيه الرسمي (مصرف لبنان) والخاص (جمعية المصارف) في التمسّك بإجراءات تعفيهم من مسؤوليتهم في التسبّب بالأزمة وتفاقمها الناتجة عن اقتصاد ريعي ساهمت الطبقة السياسية مع القطاع المصرفي في ترسيخه في لبنان. ليس الغرض هنا تكرار ما تّم عرضه في مقالات سابقة بل الهدف هو التركيز على الحلول التي ستحول دون الوقوع في مآزق مماثلة في المستقبل. من هنا نعتبر التحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي القرار الاستراتيجي الذي يجب إعادة الاعتبار له ولأنه الوحيد الذي سيمنح لبنان القدرة على عدم الانكشاف تجاه الخارج كما هو حاصل الآن. كما أن التوجّه إلى الشرق في الأسواق والتمويل يتلازم مع ذلك التحوّل وبالتالي هو القرار الاستراتيجي الثاني. كما أنّ التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي يستدعي إعادة الاعتبار إلى التخطيط المركزي وعدم الاتكال فقط على آلية السوق والتنافس الحرّ لأنّ السوق يسعى نحو الربح السريع والتنافس الحرّ وهم كما تظهره الكارتيلات التي تتحكم بالاقتصاد. وبالتالي فإنّ إعادة الاعتبار للتخطيط المركزي هو القرار الاستراتيجي الثالث الذي لا يلغي دور القطاع الخاص بل يوجّهه حيث المصلحة الوطنية والأمن الوطني يقضي بذلك.
يُسجّل لحكومة الرئيس حسّان دياب الإقرار بضرورة التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي. بل ربما قد تكون الحكومة الوحيدة منذ بداية حقبة الطائف التي أقرّت ذلك. والبيانات والتصريحات للرئيس دياب تؤكّد ذلك، غير أنه حتى الساعة لم تقدّم الحكومة رؤية متكاملة حول تحقيق الهدف. فالخطة التي أقرّها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة للخروج من الأزمة لا تفي بالغرض بالنسبة لنا. فهي خطة طابعها حسابي للخروج من أزمة مالية في الدرجة الأولى ولا تقارب بشكل ملموس ما هو مطلوب للتحوّل إلى اقتصاد إنتاجي. هذا لا يعنى أنّ الخطة مرفوضة ولكنّها لا تحاكي المعضلة ومعالجتها في آن واحد. لا يكفي التكلّم عن الاقتصاد الريعي دون الدخول في مفاصله وذلك لتفكيكه، كما لا يكفي تفكيك المفاصل لحلّ المشكلة. المطلوب خطّة متكاملة على الصعيد الاقتصادي وخطة مالية ونقدية تخدم الخطّة الشاملة وليست مستقلّة عنها. فمعالجة الأزمة دون وجود تلك الخطة قد تجهض مفعول الإجراءات التي تحاول الحكومة إقرارها وتنفيذها في خطتها المعروضة.
في هذه المقاربة نعرض الخطوط العريضة لذلك التحوّل مع التأكيد على ضرورة إعادة الاعتبار إلى التخطيط المركزي الذي ألغته حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى وحلّ مكان وزارة التخطيط مجلس الإعمار. فالتخطيط ضرورة حيوية لمعرفة اتجاهات الاقتصاد اللبناني واحتياجاته كما أنّ التخطيط يساعد على الترشيد والتنسيق ومنع الهدر في الإنفاق الحكومي. في ما يتعلّق بالخطوط العريضة للتحوّل فهي أقلّ من برنامج متكامل وأكثر من أفكار في الهواء. فهي تستدعي مناقشات بالعمق مع الجهات المسؤولة إذا ما أرادت أن تترجم أقوالها إلى أفعال.
الملاحظة الأخيرة هي أنّ قرار التحوّل هو قرار استراتيجي بشكل أساسي ولكن يستلزمه خيارات سياسية مختلفة عن تلك التي حكمت حقبة الطائف. من الواضح أنّ سياسات التمويل ستكون مفصلية سواء بالنسبة للحجم أو بالنسبة للجهة التي ستساهم في التمويل. كما أن الجدّية في إنجاز تلك المشاريع قد تستقطب المدّخرات اللبنانية لتوظيفها في بناها التحتية. لكن من الواضح أنّ الخيار بالاتجاه إلى الشرق بشكل عام والصين بشكل خاص له تداعيات سياسية كبيرة على الصعيد الداخلي كما على الصعيد الخارجي. ليست مهمتنا نقاش جدوى ذلك الخيار، فهو محسوم عندنا وإنْ استدعى نقاشاً لا تسمح له المساحة المتاحة في هذا العرض.
في ضرورة التحوّل
التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي ليس ترفاً أو خياراً يعود لاعتبارات عقائدية أو دينية أو أخرى بل هو ضرورة لتحقيق الأمن الوطني وخاصة الأمن الاجتماعي. نذكّر هنا بمقولة جبران خليل جبران في «حديقة النبي» في مطلع القرن الماضي وكأنه يتحدّث عن واقع لبنان في 2020. فيحذّر: «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تنسج، وتشرب مما لا تعصر». باقي التحذير يطال المشهد الطائفي والاستبداد وسائر العلل التي تشوب وطننا وأمتنا لكن نكتفي بالتحذير والتركيز على ضرورات العيش. فعبء استيراد المواد الغذائية غير مبرّر في بلد فيه الخيرات الزراعية، كما أنّ صناعاته في الملبوسات على سبيل المثال جيّدة لكن تمّ إهمالها عن قصد مبنيّ على جهل وذلك لإبقاء البلاد تحت رحمة القوى الخارجية التي تتحكّم بسيادة الوطن وكرامة المواطنين عبر زعماء طوائف لا قيمة عندهم للوطن.
الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي ليس شعاراً فارغاً بل له مضامين ملموسة تقارب الحالة المجتمعية المتردّية في لبنان خاصة في ما يتعلّق بالبطالة المتفشية وخاصة عند الشباب وفي المناطق. هنا نقصد بتنمية متوازنة ومتميّزة في المناطق وفي التركيز في نوع النشاطات الاقتصادية. كما أنها تتعلق بالقدرة على تحقيق حدّ أدنى من الاكتفاء الذاتي في عدد من القطاعات الإنتاجية التي ستخفّف من الضغط على الميزان التجاري عبر تخفيض الاستيراد من المنتوجات التي تنتجها تلك القطاعات وعبر زيادات الصادرات ما يؤمّن احتياطاً نقدياً فقده لبنان من جرّاء إهمال تلك القطاعات منذ بداية حقبة الطائف. وهدفنا في هذه المقاربة تقديم بعض الاقتراحات التي ستؤدّي إلى وجود اقتصاد إنتاجي يفي بالغرض المطلوب.
المشروع الاقتصادي الجديد عبر إنشاء اقتصاد إنتاجي يستلزم إعادة بناء الدولة التي مهمّتها الحفاظ على ذلك الاقتصاد الجديد. وإعادة بناء الدولة مسألة في غاية التعقيد في ظلّ الغول الذي يمثّله نظام المحاصصة الطائفية. وهل من الممكن بناء الدولة في ظلّ النظام الطائفي والتمسّك بالمقاومة في وجه مطامع العدو الصهيوني خاصة أنّ بعض رموز المحاصصة الطائفية ينادون بنزع سلاح المقاومة كشرط لبناء «الدولة» عندهم؟ وهل المعادلة الاقتصاد مقابل التخلّي عن المقاومة خيار صحيح؟ أسئلة عديدة يُضاف إليها مسألة التوجّه السياسي نحو الشرق بدلاً من الغرب الذي استنفد قواه في محاولته فرض سيطرته على المنطقة.
وهل يمكن تحقيق الاقتصاد الإنتاجي خارج إطار التشبيك الاقتصادي بين لبنان وسورية والعراق والأردن، وغداً انْ شاء الله فلسطين؟ التشبيك الاقتصادي هو الخيار الاستراتيجي الوحيد والممكن والأقلّ كلفة من خيارات أخرى عبثية كالاستمرار في التبعية للغرب. فالتشبيك هو الذي سيحمي الاقتصادات الوطنية. فتداعياته مباشرة على الاقتصاد الوطني كتأهيل مصفاة النفط في طرابلس في تسهيل تسويق النفط العراقي بشكل مباشر من الشاطئ الشرقي لبحر المتوسط وعبر خلق فرص للعمل في منطقة تمّ إهمالها عبر العقود السابقة فأصبحت أرضاً خصبة للتطرّف والتوحّش. فحصة لبنان قد تكون ليس فقط في تغطية حاجاته النفطية (بغضّ النظر عن استخراج النفط والغاز من البحر) بل في تخفيف الضغط على العملة الوطنية وعلى الميزان التجاري. كما انّ التشبيك الاقتصادي يساهم في التبادل التجاري في العملات الوطنية دون اللجوء إلى الدولار وما يستتبع من تثبيت الاستقلال والسيادة. لا نريد الاسترسال في منافع التشبيك الاقتصادي الذي سيقدّم خدمات عابرة للطوائف والمناطق وخاصة المهملة منها.
هذه الأسئلة مستمرّة في ذهننا ولن تغيب عن أيّ مقاربة نقدّمها وإنْ ليس من الممكن حسمها على الصعيد الرسمي كما نحسمها نحن لكن لن تعفينا من مسؤولية مقاربة مستلزمات التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي رغم الخلفيات السياسية التي لم تحظ على إجماع أو حتى أكثرية القوى السياسية، علماً أننا نعتقد أنّ الرأي العام الشعبي يقف إلى جانب المقاربة التي نقدّمها.
ضرب مصادر الريع غير المشروع
من أهمّ الخطوات للتحوّل من اقتصاد ريعي هو إيقاف مصادر الريع. الخطوة الأولى هي العزوف عن سياسة الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة التي حوّلت رسمياً الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعي عبر سحب السيولة من التداول في العجلة الاقتصادية والاكتفاء بالمردود الربوي على سندات الخزينة. فكانت تلك السياسة العامل الأول في ضرب القاعدة الإنتاجية للاقتصاد اللبناني وانكشافه تجاه الخارج حيث الحلول الموصوفة اليوم تكمن في اللجوء الى التعويم عبر التمويل الخارجي وفي طليعته صندوق النقد الدولي وكأنه قدر لا بدّ منه.
أما الخطوة الثانية فهي في إيقاف مصادر الريع غير المشروع الناتج عن احتكارات مشروعة وغير مشروعة. فالوكالات الحصرية (احتكارات تمّ فرضها قانوناً على اللبنانيين) والمحاصصة بين الزعماء في تسخير مرافق الدولة وأملاكها لصالحهم والمحسوبين عليهم هي مصدر النكبة الاقتصادية التي وقعت في لبنان. الإحصاءات لعدد من القطاعات التي تخضع لتلك الوكالات الحصرية والمحاصصة تفيد أنّ الثروة التي تمّ نهبها (ليس هناك من مصطلح آخر) تفوق العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات والموازنة العامة وحتى الدين العام.
وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى بعض مظاهر الاحتكارات الناتجة عن الوكالات الحصرية في قطاعات حيوية على سبيل المثال وليس الحصر رغم الادّعاء بأنّ الاقتصاد اللبناني اقتصاد حرّ! ففي تقرير أعدّه الحزب ال سوري القومي الاجتماعي جاء أنّ قطاع الدواء في لبنان تسيطر خمس شركات على أكثر من نصف السوق المقدّر بحوالي 1،3 مليار دولار. المؤسف هنا هو أنّ 7 بالمائة فقط من سوق الأدوية مصنّع في لبنان. وبعض التقديرات لنسبة الأرباح تضعها في مروحة بين 7 بالمائة و100 بالمائة. كما أنّ هناك ما يوازي 5000 صنف دواء من نوع الجنريك (أيّ التي نفذت براءة الاختراع والحماية له) حيث يمكن توفير ما يوازي 250 مليون دولار سنوياً من دون الاحتكار.
أما المجموعة الاحتكارية الثانية فتتعلّق بقطاع الطحين حيث نسبة الأرباح تتراوح بين 30 و50 بالمائة من استيراد القمح بقيمة 150 مليون دولار ومن الطحين بقيمة 20 مليون دولار سنويا. وعدد اللاعبين الكبار في الاستيراد خمسة بينما عدد المطاحن الكبرى خمسة أيضاً. وفي سياق المواد الغذائية فإنّ عدد المستوردين الكبار لا يتجاوز السبعة ونسبة الأرباح تصل في العديد من الأحيان إلى 200 بالمائة. حجم الاستيراد من اللحم والمواشي يوازي 500 مليون دولار سنوياً.
أما كارتيل السيارات فالوكلاء الحصريون الكبار لا يتجاوز عددهم الخمسة. حجم الاستيراد من السيارات هو 1،3 مليار سنوياً ويشمل حوالي 60 ألف سيارة. فهل لبنان بحاجة إلى ذلك العدد من السيارات والفاتورة المرافقة له؟ يمكن ربط ارتفاع حجم الاستيراد إلى المصدر الريعي في الفوائد حيث انفجر استيراد السلع الكمالية رغم التعرفة الجمركية المرتفعة. هذا نموذج عن هدر الدخل وتعميق التبعية للريع.
في ما يتعلّق بقطاع الإسمنت في لبنان فالإنتاج المحلّي محمي منذ 1993 حيث يُمنع الاستيراد. فالشركات المنتجة تبيع الإسمنت في السوق المحلّي بسعر 100 دولار بينما تصدّره بسعر يتراوح بين 25 و30 دولار للطن. ثلاث شركات تتحكّم بالسوق وهي محميات سياسية معروفة.
وأخيراً هناك كارتيل الحديد والفولاذ حيث شركة واحدة تسيطر على ما يوازي 50 بالمائة من السوق للحديد الذي يوازي حوالي 750 مليون دولار سنوياً. الربح يقدّر بين 100 إلى 150 دولار على الطن تتقاسمه حوالي ست شركات فقط.
السؤال الذي يمكن طرحه هو حجم نسبة الأرباح. فهل يجوز أن تكون نسبة الأرباح في قطاعات حيوية لا تقلّ عن 50 بالمائة في أسوأ الأحوال؟ ومن يحدّد تلك النسبة. لذلك نعتقد أنّ التنافس الحرّ الخالي من الوكالات الحصرية تساهم في تخفيض الأسعار بالنسبة للمستهلك كما قد تساهم في تخفيض الفاتورة في الميزان التجاري. نعي أنّ ضبط الأمور صعب بسبب الحمايات السياسية لكن تفكيك الكارتيلات يساهم في ضرب الفساد المتفشّي في لبنان. وما نقوله عن الكارتيلات ينسحب أيضاً على مرافق الدولة والاستيلاء على الأملاك البحرية ما يؤكّد الطابع الاحتكاري لبنية الفساد والاقتصاد الريعي.
خلال حقبة الثلاثين سنة الماضية يقدّر حجم الأموال المهدورة والمنهوبة بأكثر من 300 مليار دولار ما يدلّ بشكل قاطع أنّ لبنان بلد غنيّ رغم عدم تواجد موارد نفطية أو غيرها حتى الساعة. فما بال الحال إذا تمّ استخراج النفط والغاز من لبنان؟ لذلك المطلوب مراجعة تشريع الوكالات الحصرية وكسرها لفتح الباب على التنافس ولتخفيض الأسعار للمستهلك ولحث المبادرين على الأبداع والتجّدد، فالاحتكار يخنق الإبداع والتجدّد.
في البنى التحتية
أما الخطوة الثالثة فهي في تشجيع القطاعات الإنتاجية. فما هي القطاعات الإنتاجية التي تشكّل هدف التحوّل المنشود؟ القطاعات الإنتاجية التي يجب دعمها هي الزراعة، الصناعة، السياحة، القطاع الخدماتي صاحب القيمة المضافة والذي لا ينتج ريعاً غير مشروع كالقطاع الصحّي مثلاً، أو القطاع التربوي حيث مردوده طويل المدى. من جهة أخرى هناك قطاعات البنى التحتية الضرورية لتنمية القطاعات الإنتاجية كقطاع الطاقة والمواصلات والنقل والتي تستوجب استثمارات كبيرة لا يتحمّلها القطاع الخاص بشكل عام، وبالتالي تقع على عاتق الدولة. وفقاً لتلك القائمة ما هي الخطوات المطلوبة والتي تضمن ذلك التحوّل؟ فهي تتعلّق أولاً في إعادة تأهيل البنى التحتية يوازيها التشجيع في استثمارات في الزراعة والصناعة والسياحة وسائر القطاعات المذكورة في الفقرة السابقة وفتح الأسواق لها خاصة في الشرق القريب وحتى البعيد.
البنى التحتية التي يجب إعادة تأهيلها، والتي كان من المفروض أن يتمّ تأهيلها منذ ثلاث عقود على الأقلّ، (وهي التي كانت المبرّر الأساسي في مشروع إعادة إعمار لبنان والاستدانة من أجله!) فهذه البنى تتعلّق أولاً بقطاع الطاقة، وقطاع شبكات المواصلات وخاصة عبر شبكة سكك الحديد التي تربط العريضة بالناقورة وبيروت بدمشق مع متفرّعات في البقاع شمالاً وجنوباً. ليس هناك من مبرّر لعدم الإقدام على تنفيذ ذلك المشروع الذي يمكن إنجازه في بضعة سنوات على الأقلّ في ما يتعلّق بالخط الذي يربط بيروت بدمشق والشمال بالجنوب عبر بيروت. فليس هناك من مشكلة جغرافية تحول دون ذلك، وليس هناك من مشكلة «عقارية» حيث يجب استملاك أراض جديدة فالخط في الأساس موجود وإنْ تمّ ردم بعض مقاطع الخط على طريق الشمال. كما أنه ليس هناك من مشكلة تقنية تحول دون تنفيذها فيمكن الاستعانة بالتقنيات الصينية التي برهنت عن فعّالية. كما ليس هناك من مشكلة جدوى اقتصادية حيث المردود يكون عالياً عبر تنشيط نقل البضائع وخاصة تجارة الترانزيت إلى كلّ من سورية والعراق والأردن، ونقل المواطنين إلى البقاع ما يخفّف الضغط على البنية التحتية لبيروت وضواحيها عندما يستطيع المواطن العمل نهاراً في بيروت والعودة إلى البقاع بعد ساعات العمل وذلك في فترة وجيزة أقلّ من ساعة ذهاباً وإياباً. كما ليس هناك من مشكلة في كلفة إمداد السكك حيث مجموع الكيلومترات لا يتجاوز 120 كم من بيروت إلى دمشق أو على الأقلّ إلى عنجر، و200 كيلومتر من العريضة إلى الناقورة، و150 كيلومتر من محطة في إما شتورة أو عنجر وشمال البقاع وجنوب البقاع. فلبنان جغرافيته صغيرة في آخر المطاف فيمكن تحويل ذلك الحجم الصغير إلى فرصة تفعيل المناطق المنسية. أما في ما يتعلق بالكلفة فهي بحدود مليونين دولار للكيلومتر، أيّ مليار دولار لشبكة خمسة مائة كيلومتر من السكك. طبعاً يُضاف إليها شبكة خطوط كهرباء لتسيير القطارات ونوعية القطارات. أما التمويل فسنقاربه في فقرة لاحقة.
تلازماً مع شبكة سكك الحديد هناك ضرورة لإعادة تأهيل وتوسيع شبكة مولّدات الطاقة القائمة. فبالإضافة إلى إقامة معامل إنتاج للكهرباء المشغّلة بالغاز الطبيعي الذي سينتجه في وقت قريب لبنان أو الممكن استيراده من دول صديقة بأسعار مخفّضة وتسهيلات في الدفع بالعملة اللبنانية فإنّ كلفة بناء معمل تتراوح بين 600 و700 دولار للكيلوواط. فمعمل بطاقة 1000 ميغاواط يكلّف بناؤه بين 600 و700 مليون دولار إذا ما تمّ تشغيله بالغاز أو بالماء. فلو اعتبرنا أنّ حاجة لبنان خلال السنوات العشرة المقبلة في استهلاك الطاقة بحدود 2000 ميغاواط سنوياً فهذا يعني استثماراً لبناء معامل جديدة بكلفة مليار ومئتي مليون أو مليار ونصف دولار. هذه أرقام تقديرية مستوحاة من عدّة دراسات. أهميتها هي تقدير حجم الحاجة المالية لبناء المقتضى من الخطة العامة التي يجب أن توضع في تطوير البنى التحتية.
تمويل البنى التحتية
الطريق السليم لتمويل إعادة تأهيل البنى التحتية وخاصة شبكة سكك الحديد ومعامل الطاقة إلى غيرها من المشاريع الإنشائية تتطلّب إنشاء مؤسسة وطنية مختصة بها. لذلك نعتقد أنّ إنشاء مصرف للبنى التحتية ضرورة، خاصة أنّ تلك المشاريع التي عدّدناها سيُضاف إليها مشاريع أخرى تمتدّ على فترات طويلة من الزمن. المساهم الأكبر في ذلك المصرف تكون الدولة ويمكن أن يشارك فيه هيئات مختصة في القطاع. كما يمكن البحث مع البنك الآسيوي الصيني إما المشاركة وإما التمويل المباشر للمشاريع أو عبر المصرف. نعتقد أنّ الصينين حريصون على التواجد في الشاطئ الشرقي لبحر المتوسط في إطار مشروعهم الطريق الواحد/ الحزام الواحد.
في القطاعات الإنتاجية
أولاً: في الزراعة
الخطوة الرابعة هي في الدعم المباشر للقطاعات الإنتاجية.
الاهتمام بالزراعة أمر حيوي حيث انخفض عدد سكّان الريف بين عامي 1950 و2018 من 68 بالمائة إلى 11 بالمائة من مجمل سكّان لبنان. لكن الرقم الأخطر هو انخفاض نسبة اليد العاملة في القطاع الزراعي من 19 بالمائة إلى 6 بالمائة فقط من مجمل اليد العاملة.
لقد نشرت صحيفة «الأخبار» بقلم فيفيان عقيقي في 18 آذار 2019 تحقيقاً حول القطاع الزراعي بيّنت فيه الإهمال (قد نقول المنهجي!) للقطاع من قبل المسؤولين وخاصة في حقبة الطائف. لا نستطيع في هذا العرض تبيان واقع القطاع الزراعي المزري لضيق المساحة ولأنّ التركيز هو على ما يجب أن تقوم به حكومة الرئيس دياب ومن سيليها في ذلك القطاع على مدى السنوات العشرة المقبلة على الأقلّ.
المهمّ في إعادة تأهيل القطاع الزراعي هو أولاً أيقاف التمدّد العمراني الذي يقلّص المساحات المتاحة للزراعة، وخاصة تلك المساحات الأكثر خصوبة وإنتاجية، إلاّ أنّ المردود على الاستثمار العقاري يبقى أعلى من المردود على الإنتاج الزراعي. ثانياً، المطلوب هو التركيز على الزراعة التي تأتي بقيمة مضافة أكبر من المنتوجات العادية. فعلى سبيل المثال زراعة الجوزيات كالكستناء والفستق الحلبي تستحوذ حالياً على 2،3 بالمائة من مجمل المساحة في مقابل مساهمتها بنحو 6 بالمائة من مجمل المنتوج الزراعي اللبناني. وكذلك الأمر بالنسبة لزراعة الأشجار الاستوائية كالأفوكادو والقشطة والكيوي. وبالتالي هناك ضرورة في إعادة النظر في مروحة المنتوجات الزراعية المطلوبة. فوفقاً لدراسة أعدّتها وزارة الزراعة بالتعاون مع منظّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) فهناك عشر أنواع محاصيل تستحوذ 71 بالمائة من مجمل المساحة الزراعية إلاّ أنها لا تساهم سوى 59 بالمائة من مجمل الإنتاج الزراعي. هذا ما يؤكّد على ضرورة التركيز على السلع التي تأتي بقيمة مضافة أكبر.
من جهة أخرى هناك تشجيع حكومي مستمرّ منذ بداية حقبة الطائف على استيراد المواد الغذائية المدعومة من قبل حكومات الدول المصدّرة ما يضرّ بالقطاع الغذائي في لبنان. فعلى سبيل المثال: أيجوز أن يستورد لبنان حاجاته من الألبان والخضار من دول الخليج؟ فالتنافس هنا غير مشروع لأنّ تلك السلع مدعومة من قبل حكومات الخليج وبالتالي من واجب الحكومة اللبنانية حماية المنتوج اللبناني من الألبان مثلاً بالنسبة للمستوردات أو دعم الصادرات منها. كما أنّ هناك أسواقاً مهملة للمنتوجات الزراعية اللبنانية كالسوق العراقي والسوق الأردني.
في خلاصة الأمر هناك واجب إعادة تأهيل القطاع الزراعي ما يتطلّب ترشيد أنواع المواد التي يجب زرعها وذلك يستدعي تخطيطا مفصّلاً للمساحات والكمّيات والنوعيات المطلوبة لكلّ سلعة. كما أنّ المطلوب تخفيض كلفة الأسمدة المرتفعة والتي تحول دون جعل المنتوجات اللبنانية قادرة على التنافس. ويتلازم ذلك مع إعادة تأهيل البنى التحتية خاصة في ما يتعلّق بالريّ وترشيد استعمال الموارد المائية التي تذهب هدراً.
ولا يمكن استكمال إعادة التأهيل للقطاع الزراعي دون التطرّق إلى تمويل المشاريع. لذلك نقترح هنا أيضاً إنشاء مصرف للزراعة تكون الدولة المساهم الأكبر وقد تشارك فيها الهيئات المختصة من غرف زراعية واتحادات وتعاونيات مزارعين.
ثانياً: في الصناعة
ليس هدف لبنان أن يكون منافساً للصين في الصناعات التحويلية. لكن للبنان خبرة سابقة في عدّة قطاعات كالصناعات الغذائية والمشروبات والملبوسات والأحذية على سبيل المثال التي وصلت إلى جودة مرتفعة قبل اندلاع الحرب الأهلية. هذه القطاعات لا تستوجب استثمارات رأس مالية كبيرة، بل استثمارات في اليد العاملة ورساميل التشغيل. ويمكن للدولة تسهيل تلك الاستثمارات عبر مصرف مختصّ للتمويل الصناعي مما يؤكّد أن التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي يتطلّب إعادة هيكلة في القطاع المصرفي.
كان القطاع الصناعي قبل اندلاع الحرب يساهم في حوالي 15 بالمائة من الناتج القومي بينما اليوم تراجع إلى حوالي 7 بالمائة، أيّ أكثر من 50 بالمائة مما كان عليه. ونذكّر أنّ في تلك الفترة كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية لا يتجاوز 2،5، أيّ الصادرات اللبنانية كانت تدرّ واردات في العملة الصعبة كما أنّ حاجيات لبنان كانت تغطّى إلى حدّ لا يُستهان به بالإنتاج المحلّي. جودة السلع المنتجة كالأحذية مثلاً كانت تغني لبنان عن استيراد الأحذية. الملبوسات وخاصة الملبوسات الداخلية من قطنيات كانت من إنتاج لبناني كمعامل «بي في دي» على سبيل المثال. جميع هذه الصناعات تستوعب أيدي عاملة تساهم في تخفيف وطأة البطالة.
الصناعات التي برع فيها لبنان يمكن تطويرها عبر فتح أسواق لها في الدول المجاورة بعد الإهمال المتعمّد الذي مارسته حكومات متتالية في حقبة الطائف. نذكّر هنا ما قال لنا بالحرف الواحد أحد الوزراء للاقتصاد اللبناني أنّ على المصانع أن تفكّك مصانعها وتركّبها في قطر! كما أنّ وزيراً آخر قال لنا بالحرف الواحد أن لا جدوى من تشجيع الصناعة لصغر رقعة السوق. والجدير بالذكر أنّ الوزير هو صناعي يحتكر حوالي 50 بالمائة من القطاع الذي يعمل به!
لا بدّ لنا هنا من مقاربة سريعة حول الصناعات البديلة للاستيراد. النظرية النيوكلاسيكية ومعها النيوليبرالية تدين اللجوء إلى إنشاء صناعات تكون بديلة عن الاستيراد بحجج نعتقد أنها واهية وتخدم نفسها (self serving) أيّ لمصلحة أجندات سياسية واضحة للدول الصناعية المتقدّمة. فحجة عدم الاستفادة من تقسيم السوق الدولي أو من أسعار مخفّضة بسبب التنافس الدولي أو تجنّب الحمايات الجمركية التي ترفع من قيمة السلعة المستوردة فيمكن تفنيد كلّ واحدة منها. الهدف واضح هو منع الدول الناشئة من منافسة الدول الصناعية التقليدية. هدفنا ليس ذلك بل تطوير صناعة وطنية تخفّف من العجز في الميزان التجاري وخلق فرص للعمل. فهذه المكاسب تضاهي «الخسائر» الافتراضية التي تروّجها النظريات النيوليبرالية والتي برهنت على فشلها في الآونة الأخيرة. فهناك صناعات بديلة للاستيراد كمساحيق الغسيل وأنواع الصابون على سبيل المثال وليس الحصر التي تفيد الاقتصاد الوطني. بالمناسبة، يمكن إعادة تأهيل الصابون الطرابلسي الذي يُشهَد لفوائده ويستفيد من وجود الزيتون بوفرة. فهذه صناعات صغيرة لا تستوجب استثمارات كبيرة وتستوعب اليد العاملة. فهي أكثر تقدّماً من الحرفيات وأقلّ من الإنتاج الكمّي الكبير (mass production) وتساهم في تخفيف الضغط على الميزان التجاري.
لكن مستقبل الصناعة في لبنان قد يكون في الصناعات التكنولوجية الذكية كالمواصلات على سبيل المثال حيث يد عاملة ماهرة ومبدعة تستطيع أن تنافس الدول الأخرى. وهنا أيضا لا بدّ من تجهيز البنى التحتية من خطوط كهرباء إلى شبكات تواصل وخاصة الانترنت السريع. حالياً لبنان يدفع أغلى فاتورة كهرباء في العالم وأغلى فاتورة انترنت وهو من أبطأ خطوط الانترنت في العالم ولذلك بسبب الفساد والإهمال.
ثالثاً: في السياحة
لبنان يفتخر بأنه بلد سياحي بامتياز. فهناك عدّة أنواع للسياحة كما أنّ مصدر السياحة هو الخارج. لكن السياحة الداخلية لا تقلّ أهمية عن السياحة الخارجية وفوائدها عديدة كتنمية المناطق وتعريف المواطنين على وطنهم خارج الأنماط المعهودة. فكمّ من لبناني يعرف مناطق الشمال في عكّار أو المرتفعات في محيط طرابلس الكبرى، أو منطقة بحيرة اليمّونة إلخ…؟ فليس هناك من بنى تحتية للسياحة القصيرة (يوم) أو الأكثر طولاً كفنادق ومنتجعات سياحية.
كما أنّ هناك سياحة طبّية حيث لبنان يتميّز ببنية طبّية كانت وما زالت مفخرة في المشرق العربي وخاصة للعلاج المتوسط وطويل المدى. ونضيف إلى ذلك النوع من السياحة الطبّية السياحة لجيل من العمر الثالث أيّ جيل المتقاعدين في دول الشمال البارد الذين يفتشون عن مواطن سكن متوسطة الأجل (موسم الشتاء) فيأتون من بلادهم الباردة. يتطلّب ذلك تجهيزاً خاصاً من الحاضنات المجهّزة لمتطلبات العمر الثالث. فهناك دول كمالطا وقبرص وجزر الكناري التي تشكّل جهة سياحة متوسطة إلى طويلة المدى يمكن ان تشكّل نموذجاً للبنان في ذلك القطاع المختص.
رابعاً: في قطاع الخدمات ذي القيمة المضافة المرتفعة
نقصد هنا قطاعين برع لبنان فيهما وهما قطاع الاستشفاء وقطاع التربية. هذان قطاعان يستلزمان استثمارات كبيرة وطويلة المدى كما أنهما يستلزمان حسم دور القطاع العام فيهما. ولبنان يتمتع بتفوّق نسبي تراكم مع الزمن وفي وجه المخاطر، لذلك استراتيجية التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي في قطاع الخدمات تطلّب التركيز على ذلك القطاعين. في رأينا، ضرورات الأمن الاجتماعي والوطني تفرض على القطاع العام الريادة وخاصة في قطاع التربية. المدارس الخاصة التابعة لمرجعيات دينية أو خارجية لا تساهم في بناء تربية وطنية كما أنها تستهدف فقط شريحة معيّنة من المجتمع. إعادة تأهيل المدارس الوطنية في المباني والمعدّات والمربّين أولوية في رأينا لخلق المواطن، كما أنّ التعليم حق للجميع ولا يجب أن يخضع لكلفة على المواطن. فالمساعدات التي كانت تمنحها الدولة للمدارس الخاصة يجب أن تتوقف وأن تصرف على تحسين أوضاع المدارس الوطنية لاستيعاب الأكثرية الساحقة من التلاميذ والطلاّب. كذلك الأمر بالنسبة للجامعة اللبنانية التي يجب أن تصبح الرائدة في كافة الأقسام. أما مردود ذلك الاستثمار فهو على مدى الأجيال القادمة وبالتالي أنّ القسم الأكبر من الموازنة العامة يجب أن يُصرف على التربية والتعليم.
أما في ما يتعلّق بالقطاع الصحّي فإنّ أداء المستشفى الحكومي في بيروت في مواجهة جائحة كورونا يدلّ على قدرة تحويل البنية الاستشفائية في لبنان إلى الدولة مقارنة مع إخفاق المستشفيات الخاصة في تلك المواجهة التي همّها الربح قبل صحة المواطن. معظم المستشفيات في دول أوروبا وكندا وروسيا والصين وكوبا تابعة للدولة دون ان يشكّل ذلك انتقاصاً من كفاءاتها. الاستشفاء الخاص يمكن أن يكون مرادفاً وليس بديلاً عن الاستشفاء العام وبالتالي ثاني الأولويات في الموازنة يجب أن تصرف على القطاع الصحّي في لبنان.
هناك قطاعات أخرى في قطاع الخدمات صاحبة القيمة المضافة المرتفعة وهي مرتبطة بالخدمات الرقمية التي تطوّر كلّ يوم. فمع انتشار الجيل الخامس من الخدمات الرقمية، والسادسة ليست بعيدة، فإنّ ذلك القطاع يتطلّب استثمارات في التعليم الرقمي وتهيئة الأرضية لنموها في لبنان.
في ما يتعلّق بالاقتصاد الرقمي فلا بدّ من تكثيف الاستثمارات في البنى التحتية الملائمة كالتواصل وشبكة الانترنت السريع والألياف البصرية. حالة الانترنت في لبنان مزرية ومكلفة جدّا ولا تستقيم مع طموحات واضحة في إنشاء اقتصاد رقمي يتماهى مع الاقتصاد الإنتاجي التقليدي. فالثاني ليس بديلاً عن الأول كما أن الأول بحاجة للثاني. اقتصاد الغد سيكون مبنياً على التواصل الفائق السرعة (hyperconnectivity) ومراكز المعلومات (data centers). هذه استثمارات لا يستطيع القطاع الخاص تأمينها بمفرده وبالتالي يصبح دور الدولة مفصلياً في تنمية ذلك القطاع. لكن للقطاع الخاص دور مميّز في إنشاء المشاريع الجديدة (start ups) التي تستلزم ابداعاً من قبل جيل صاعد من الشباب نشأ وترعرع على تلك التكنولوجيات. كما أنّ تلك المشاريع تستطيع استيعاب قوى عاملة ماهرة جداً تنتجها الجامعات العاملة في لبنان رغم ما لدينا من تحفّظات تجاهها.
من خلال عرض هذه الأفكار نجد أنّ دور الدولة سيكون أساسياً وعلى عكس ما تفرضه توصيات المؤسسات المالية الدولية التي تعمل على تقليص دور الدولة في العجلة الاقتصادية. وهذا الدور الأساسي يستدعي بناء جهاز إداري كفوء ونزيه في ظلّ نظام مبني على المحاصصة الطائفية. قد تبدو المهمة مستحيلة ولكن تحقيق بعض المشاريع التي لا تخضع للمحاصصة الطائفية بشكل نافر قد يخلق دينامية جديدة تفرض ذهنية جديد قد تقلّص من الدور السلبي التي تقوم به المحاصصة الطائفية. فدفع تأهيل وتطوير شبكة سكة الحديد تشمل المناطق والطوائف كلّها وتساهم بشكل مباشر في تنمية قطاعات مرادفة. كما أنّ إعادة تأهيل مصفاة طرابلس تساهم في عملية التشبيك الاقتصادي مع العراق وسورية كما أنها توفر المحروقات بأسعار منخفضة جداً وبتسهيلات نقدية يمكن عقدها بين الأطراف المعنية. على كلّ حال لن تقف المحاصصة الطائفية مكتوفة الأيدي كما أنّ أنصار بناء الدولة الحديثة المبنية على اقتصاد إنتاجي لن تقبل بإجهاض جهودها للخروج من المستنقع الذي أوجده ذلك النظام الفاسد.
في الخلاصة نعتقد أنّ التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي قرار استراتيجي تليه سلسلة من القرارات الهامة كإعادة الاعتبار للتخطيط، ولإعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر إنشاء مصارف مختصة، وإلى استثمارات كبيرة في البنى التحتية. قراءتنا للتحوّلات الدولية تفيد أنّ على لبنان أن يلتفت إلى الشرق للمساعدة في التمويل وللأسواق لمنتوجاته. كما أنّ التشبيك مع كلّ من سورية والعراق والأردن ضرورة حيوية للبقاء ونجاح مشروع أرساء قاعدة إنتاجية في لبنان. الأفكار المعروضة هي أقلّ من برنامج متكامل وأكثر من أفكار غير مرتبطة بعضها ببعض. نعرضها لمن يهمّه الأمر على أن تكون قاعدة لنقاش معمّق في مختلف الأبعاد المعروضة.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي