عن الوجز والتّجاوز في الأدب الوجيز
} د. باسل الزين*
ورد في لسان العرب: « وَجُزَ الكلام وجازةً ووجزًا: قلَّ في بلاغة، وأوجزه اختصره … وأمرٌ وجزٌ وواجِزٌ ووجيز وموجَزٌ وموجِزٌ… والوجز: السّريع العطاء… ورجلٌ وجزٌ: سريع الحركة فيما أخذ فيه».
وحقيقة الأمر أنّ مسألة الإيجاز ليست طارئة في الأدبين العربي والعالميّ، لذا لا ندّعي في هذا المقام توليد مفهوم لا سند تاريخيّ له بقدر ما ندّعي السعي إلى تأصيل هذا النوع من الكتابة فنًا مستقلًا وأدبًا جديدًا بالتمام. ومن المعلوم أنّ الإيجاز في التراث العربيّ هو كلام يتطلّب قدرًا عاليًا من التكثيف، أي وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقلّ منها تكون وافية بالغرض المقصود. ولهذه الغاية، يمّمنا شطر لسان العرب لنقف على صحّة انتقاء التسمية تركيبيًا ولغويًا ومعنويًا، والتراث العربيّ لنتبيّن ماهيّة الإيجاز، قبل أن نسوّغ طرحنا وندلي بدلونا في الغاية المتوخاة من الكتابة الجديدة التي ندعو إليها.
لغويًا: بات مسوّغًا عندنا حقّنا المشروع في استخدام مصطلح الأدب الوجزيّ أو الأدب الوجيز على نحو ما ورد من أصل لغويّ لهذه التسمية في لسان العرب. معنويًا: نتّفق تمامًا مع ما جاء في التراث العربيّ لكنّنا لا نكتفي به، بل نسعى إلى تحميله دلالات جديدة، وهذا ما يُعرف أوّليًا، في خلدنا، بالتّجاوز.
في سياق التتبع اللغويّ نفسه، جاء في لسان العرب: «جَوَزَ: جُزتُ الطرّيق وجاز الموضع جوزًا وجُؤوزًا وجوازًا ومجازًا وجاز به وجاوزه جوازًا وأجاز غيره وأجازه: خلّفه وقطّعه … وتجاوز بهم الطّريق، وجاوزه جوازًا: خلّفه … وجاوزت الشيء إلى غيره وتجاوزته بمعنى أي أجزتُه».
وعليه، يُتيح لنا هذا التقصّي اللغويّ أن نتعرّف أمرين. يتعلّق الأمر الأوّل بمعنى خلّف، ويتعلّق الأمر الثاني بمعنى جاوز الشيء إلى غيره. على هذا النحو، سنكرّس ما تبقّى من صفحات هذه المقالة للوقوف على مناط التجديد في طرحنا توضيحًا لمعنى التجاوز، ودرءًا لكلّ التباس قد ينشأ في ذهن المتلقي.
من المعاني الجميلة التي يحملها الفعل « خلّف»، بالإضافة إلى معنى الإنجاب، هو الترك والتأخير، فنقول: خلّف أثرًا أي ترك أثرًا، وخلّف الحكم أي أرجأه، وخلّفه أي تركه خلفه. وبدهي القول أنّ الأدب الوجيز لا يُعنى – ولا يدّعي القيام بهذه المهمة الجليلة – بإصدار أحكام تتعلّق بجودة أو رداءة الشعر العمودي، وذلك بالقدر نفسه الذي لا يُعني فيه بالحكم على المعايير التي اعتدمتها القصيدة الحديثة والشعر المنثور، إيمانًا من أعضائه بأنّ كلّ حركة شعريّة (وأدبيّة بعامّة) لها ظروف تكوّنها وبعدها التاريخي ومقوماتها المجتمعيّة ومنظوراتها النقدية. في هذا السياق، يأتي معنى الترك ليُفيد تعليق الحكم، على غرار ما فعل هوسرل في الفلسفة الفينيمونولوجيّة، وتوجيه العناية نحو مسالك تنعقد عليها سبل توجّهاته. بيد أنّ تعليق الحكم لا يعني على الإطلاق عدم تلمّس المآزق التي يمرّ بها الأدب العربيّ بعامّة والشعر منه بخاصّة. وإذا كان فوكو يرى أنّ هناك سرديات كبرى قد حكمت عصر النهضة والعصر الكلاسيكي والعصر الحديث بحيث انبنت كلّ سردية على مقومات خاصّة بها، محدثة انقطاعًا بيّنًا مع السرديات التي سبقتها، فإنّنا نسوّغ لأنفسنا، والحال هذه، أن نتحدّث عن سرديات شعريّة حكمت كلّ عصر ووسمته بطابعها. عند هذا الحد، نرى أنّ عصرنا يُفسح في المجال أمام تكريس سرديّة جديدة قوامها التجاوز بمعنى مجاوزة الشيء إلى غيره.
ولا غرو في أنّ العصر الحالي له من مقوّمات التكثيف وآليات الاختصار ما يفتح الباب على مصراعيه أمام كلّ ضروب التأويل لأهميّة انبناء اللحَيْظة في سياق الامتداد الزمني اليومي، أي القدرة على استرداد خصوصيّة مبهمة ومتعة تائهة وتأمّل هارب من أتون الاستلاب والتأليل والتشييء. بهذا المعنى، تغدو حركية الأدب الوجيز، بما هي حركة في المقام الأوّل، حركة تروم العبور إلى سبل تعبير مغايرة، فلا يعود هدفها منصبًا على رفض التراث الشعري ومحاكمته، وإن كنّا نلتمس هذا النقد في مظاناته المطلوبة، بل يغدو تجاوزًا نحو البحث عن مطاوي الأبعاد المستترة وغوصًا في التنقيب عن الاحتجابات واستنطاق المسكوت عنه كونيًا ومصيريًا ومجتمعيًا وإنسانيًا. بعبارة أوضح، عندما نتحدث عن تجاوز فإنّنا لا ندعي تخطي المتنبي أو أبي تمام وادّعاء التفوق الشعري على درويش وأدونيس (على سبيل المثال لا الحصر)، وإنّما ندّعي ولوج مناطق قصيّة لم يكن بإمكان هؤلاء الشعراء ولوجها لو احتكموا إلى السرديات الشعرية التي حكمت تصوراتهم وبنت حركاتهم التجديدية.
من هنا، وجب التعاطي مع مفهوم التجاوز على أنّه افتراع سبل تعبير جديدة لم تكن معروفة لدى أسلافنا، وذلك بالقدر نفسه الذي تعني فيه الانقطاع مع هذا التراث وليس إحداث قطيعة بالمعنى الباشلاريّ.
يبقى أن نشير إلى أنّ سمة الإيجاز في الأدب الوجيز لا تعني على الإطلاق الرسوف عند حدود وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقلّ منها تكون وافية بالغرض المقصود، ذلك بأنّ هذا التعريف بات مبتسرًا اليوم ولا يفي مقاصدنا حقّها. وعلى الرغم من أن التكثيف يُشكّل حاجة ملحة ومطلبًا ضروريًا ينعقد عليهما التعبير ومضًا أو عن طريق القصة الوجيزة، إلا أنّ هذا الشرط لا يعدو كونه سمة من السمات الكثيرة التي انبنى عليها التصور النظري والعمل التطبيقي لطروحاتنا.
وبشيء من التفصيل، نرى أنّ التجاوز يعني تكريس التكثيف منضافًا إلى جملة عوامل وعوالم متوازية تشكّل لُحمة بنائية لا تعرف الفكاك. فالتعريف الوارد في التراث العربي لا يأتي على ذكر طاقة المفردة وابتكار زمن أدبي جديد وتوليد موسيقى تنبثق من علاقات التجاور وتكريس علاقات ملاءمة جديدة تروم المفارقة في جوهرها الكشفي البعيد…
رأس القول إنّ الأدب الوجيز يسعى إلى تكريس سردية أدبية جديدة قوامها الوجز كنوع أدبي مستقل، ومفادها افتراع دروب غير مطروقة من خلال ما يُعرف بالتجاوز، عسانا نرتق جرح الكينونة النازف، ونضفي شيئًا من عندياتنا بعد أن لفّنا الظلام وتلقّفنا المهاوي العميقة.
*عضو ملتقى الأدب الوجيز.