القدس في يومها العالمي: لا عصر انحطاط قد انتهى ولا حداثة أشرقت شمسها
} فتحي كليب*
في السابع من آب عام 1979، أعلن الإمام الخميني الراحل يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يوماً عالمياً للقدس، فيه يتوحّد الملايين من المسلمين تحت راية دعم القدس والانتصار لها.. البعض من العرب لا يروق له انّ قائداً وزعيماً إيرانياً يأخذ المبادرة ويعلن يوماً للقدس، ويجعل من حناجر عشرات الملايين وفي يوم واحد تصدح بصيحات التأييد للقدس وبالدعوات الى تحريرها..
القدس اليوم أمام مشهدين: مشهد التطبيع، بجميع أشكاله، والآخذ بالتزايد والتنقل بين عاصمة عربية وأخرى لدرجة انّ زيارة الكيان الإسرائيلي والتجوال في المدن الفلسطينية المحتلة لم تعد جريمة بنظر البعض، كما انّ زيارات مسؤولين ومستوطنين إسرائيليين، بسبب وبدون سبب، وتجوّلهم في الشوارع العربية وزيارات الأماكن السياحية فيها، أصبحت أمراً روتينياً ومعتاداً. ومشهد آخر شاهدناه في سنوات مضت عندما نزلت الملايين، في عدة بلدان عربية وأجنبية، الى الشوارع في حماوة القيظ تحمل اللافتات والرايات التي تنادي بتحرير القدس…
بعيداً عن النقاش السياسي ولعبة التحالفات الدولية التي تبدأ وتنتهي بتبعية أقلّ ما يُقال فيها إنها غير متوازنة وتخدم «إسرائيل» أولاً وأخيراً، فهل نحار بين هذين المشهدين، والى أيّ مشهد يمكن لفلسطيني وعربي ومسلم وحرّ يؤمن بما تبقى من إنسانية آفلة ان ينحاز.. هنا لا ينفع الحديث عن أهداف إيران من تنظيم فعاليات يوم القدس، في وقت يعجز الآخرون عن قول مجرد كلمة بحق القدس. وماذا يمكن ان نحلل حين تحضر القدس، في هذا اليوم ولو لدقائق معدودات، أمام أعين وآذان الملايين ممّن يتأثرون يومياً بإعلام لا وظيفة له إلا محاولات صناعة رأي عام جديد وبثقافة إقفال أبصار وأسماع عن ثوابت ومسلّمات أمة، ليس فقط صرخة القدس وأهلها، بل وأيّ قضية محقة على مساحة الوطن العربي الكبير..
الكلام اليوم في حضرة القدس وعظمتها ليس فقط لنعلي من مكانتها او نبيّن قدرها وقدرتها على جمع الشرق والغرب من حولها في مواجهة هجمة صهيونية واستعمارية تسعى ليس فقط لاحتلال المدينة والسيطرة عليها، بل وتزوير تاريخها، باعتبارها فقط أرضاً لعاصمة إحدى ممالك «إسرائيل» عبر التاريخ، بل انّ الجزء الأكبر من عمليات التزوير التاريخي قد طال مدينة القدس أكثر من أيّ مدينة فلسطينية أخرى. ولنا في ما قاله الأب الروحي للحركة الصهيونية ثيودور هرتسل في مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897 البرهان الناطق، فقد قال: «لو حصلنا يوماً على القدس، وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بشيء، فسوف أزيل كلّ شيء ليس مقدّساً لدى اليهود، وسأدمّر الآثار التي مرّت عليها القرون». كما تكمن أهمية القدس باعتبارها قاسماً مشتركاً بين جميع قادة وزعماء العدو الاسرائيلي الذين يجاهرون بأن لا قيمة لدولة إسرائيلية ما لم تكن القدس عاصمة لها.
هل نحتاج الى إعلام جديد او وسائط فكرية جديدة كي نوصل حقيقة القدس الى من يريد ان يتنازل عنها ويدعو الفلسطيني الى القبول بعاصمة فلسطينية على ضفافها، أم اننا بحاجة الى استيراد شعوب من أقاصي الأرض تكون أكثر إدراكاً ووعياً وتعرف قيمة القدس وقيمة التضحية من أجل استعادة حريتها.. فحين يقف «عربي مسلم» في شوارع القدس ويدعو الى إنهاء هذا الصراع الذي لا يستحقّ ان تراق لأجله الدماء، او ان يتساءل بعضهم عن أحقية الفلسطينيين بفلسطين، دون ايّ عقاب او محاسبة من الأنظمة الأمنية والمخابراتبة لدولته، فهذا يعني ان لا عصر الانحطاط قد انتهى ولا عصر الحداثة قد أشرقت شمسه بعد فوق ربوع بلاد العرب والمسلمين…
اليوم… الكثيرون من أولئك المفلسين المفرّطين بالقدس قد لا يعرفونها، حتى على الخارطة السياسية، وقد لا يفقهون شيئاً عن تاريخها وحضارة أهلها، ولا يعرفون ما تمثله بالنسبة للشعب الفلسطيني ولملايين العرب والمسلمين.. صحيح انّ القدس ليست المدينة الأكبر من حيث المساحة (125 كلم مربع، ومساحة القدس الشرقية ما يعادل 13% من مساحتها الإجمالية)، وهي ليست الأهمّ من حيث أهميتها التاريخية ولا المكانة الدينية او الموقع الجغرافي او تأثيرها السياسي ولا كونها تمثل ظاهرة حضارية تنفرد فيها دون سواها من مدن العالم، باعتبارها قبلة الديانات.. ولا كونها مركز اهتمام القادة العظام عبر التاريخ.. بل هي كلّ ذلك معاً، وبالتالي فإنّ أهميتها تنبع من اعتبارها محور النضال الفلسطيني، ليس من الزاوية الرمزية فقط بل وأيضاً من كونها عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة السيدة على أرضها وشعبها.
نعم ليس مبالغة القول أنّ القدس هي قلب فلسطين وقلب العالمين العربي والإسلامي، ولا حياة لفلسطين إلا باستعادتها حرة الى أهلها. فهي حاضنة نضالنا الوطني ولا يجوز بأيّ حال من الأحوال التفريط بها، أو التنازل عنها، أو عن أجزاء منها أو المقايضة عليها. فهي مدينة لأهلها وناسها بمقدّساتها وآثارها وحجارتها وترابها.. منها وبسببها انطلقت الانتفاضة عام 2000 بعد ان حاول الإرهابي المقبور ارئيل شارون زيارتها، واليوم تشكل رأس الحربة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية. وليس صدفة ان تخرج الانتفاضة الشبابية عام 2016 ولا زالت تتدحرج منذ ذلك الوقت من بين أزقتها وشوارعها..
لذلك فإنّ صمود القدس هو في صمود أهلها وناسها، وللصمود اشتراطاته ومتطلباته وأولى شروط الصمود ثبات أهل القدس فيها وعدم تركها. وهو أمر يتطلب منا أن نوفر كلّ العوامل والضرورات والإمكانات والاشتراطات اللازمة لتوفير هذا الصمود، وفي مقدمة ذلك وضع استراتيجية نضالية فلسطينية، وعربية وإسلامية خاصة بمدينة القدس وبما يوفر مقوّمات صمود المقدسيّين في أرضهم ويضمن حمايتهم من عدوان جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين.
انّ المخاطر التي تتهدّد مدينة القدس هي مخاطر جدية وكبيرة ونابعة من تفكير عتاة الصهيونية الذين التحموا مع متطرفي البيت الأبيض في الولايات المتحدة الذين قدّموا لـ «إسرائيل» في قضية القدس ما لم يقدّمه رئيس آخر، ومرة جديدة، لا عين عربية رأت ولا نخوة إسلامية تحركت ولا أذن مسيحية سمعت، وتركت القدس وحدها تصارع مارداً يسعى الى فرض وتشريع سيطرته على المدينة بأيّ شكل من الأشكال، وهو ما يدعونا الى دقّ ناقوس الخطر بشأن هذه المخاطر وان تحظى قضية القدس بالمكانة والأهمية التي تستحق في وجدان ونفوس جميع الأحرار في العالم.
انّ الدفاع عن مدينة القدس هو دفاع عن الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، وهو ما يتطلب من جميع المؤمنين بعدالة هذه القضية ان يتوحّدوا تحت راية الدفاع عن القدس وضرورة تحريرها وعودتها الى أصحابها الشرعيين، الذين أكدوا في أكثر من مناسبة ان لا حلّ ممكن ان يتحقق دون عودة وتحرير القدس التي أصبحت عنوان الشعب الفلسطيني، بحيث لا يمكن ان نتحدّث عن الشعب الفلسطيني ونضاله طيلة أكثر من نصف قرن دون الحديث عن مدينة القدس وما مثلته من معنى لدى جميع الفلسطينيين.
فشكراً لكلّ من نطق بكلمة حق من أجل القدس، وتحية لمن جعل للقدس يوماً عالمياً… على أمل ان نكرّس كلّ أيامنا ونضالنا من اجل القدس.. فهي تستحق ما هو أكثر ذلك.
*عضو المكتب السياسي للجبهـة الديمقراطيــة لتحرير فلسطين