انسجام القيم المتحوّلة وجماليّة المدركات الحسّية في تشكيلات النمساويّة ريناتي سوتريش
طلال مرتضى*
الالتفاف حول تجربة فنية ناضجة يستدعي حشد كل الإمكانيات القرائة المتاحة لاجل الوصول الى مقاربات معقولة يمكن للقارئ التقاطها عن بُعد ومن ودون الوقوف في حضرة العمل الفني..
النمساوية ريناتي سوتريش تقدّم لرواد الفن عرضاً مغايراً ولافتاً من حيث معطى الموضوع وادوات الفكرة، وهذا ما يتيح لهم فرصة اعادة ترتيب افكارهم ليقفوا على حقيقة تلك التجربة التي تقوم على اشياء لربما نعبرها في يومياتنا التي نكابد من دون ان نلتفت اليها..
تلك التجربة تذهب في خطين متوازيين تماماً، ففي الخطّ الاول تعتمد الفنانة ريناتي على بناء عملها الفني باستسقاء فكرته من ثلم او فلقة صخرة او من الشقوق والفجوج الارضية، وهذا ما يجعلنا وحين نتوقف في لحظة ما امام عمل فني، ينعكس على شكل خيالات (احفوريات وتكلسات) غابت عن الواقع الحالي نتيجة تراكم طبقات الارض او انصهار الصخور في حقب سالفة، وهذا ما نطلق عليه تاريخ التكوين المخفيّ.
هذا التكنيك تنفذه الفنانة ريناتي بمواد أولية طبيعية مأخوذة من التراب أو مطحون الصخور والحجارة أو من مسحوق الجير ويتم مزج هذه المكونات بالألوان المائية لتنتج هنا مادة جديدة بعيدة عن التفاعل الكيميائي، وصديقة للبيئة، هذا بالإضافة إلى أنها لا يمكن استخدامها سوى على المسطّحات القماشية أو من ذات المصدر النباتي كالكرتون وغيره وذلك لأن هذه المادة المكوّنة من المواد المذكورة آنفا لا يمكن استخدامها مع أرضيات صناعية مثل البلاستيك.
يتلمس قارئ أعمال ريناتي عند وقوفه أمام لوحتها الفنية هدوءًا حقيقياً غير مفتعل يفرز طاقة إيجابية عالية، تلك الطاقة تشكل انعكاساً متبادلاً بين اللوحة وبين العين الرائية، فالهالات والكتل اللونية على سطح اللوحة ترسل إشارات الهدوء والسكون والراحة وذلك من خلال مكوناتها الطبيعية والتي ننتمي إليها كبشر، قصة الخلق من تراب أو طين تساعد على امتصاص الطاقة السلبية بالتخاطر، بينما تذهب العين وبدورها كمحلل للقيم اللونية من حيث المدلولات، فكثافة الاصفر ذي المنشأ الصخري تذهب دلالته الى الصفاء والهدوء، هذا ليفارق باقي الالوان الأخرى ذات الطاقة السلبية، والتي تبدأ بالتزاحم عند الوقوف أمام الاعمال الاخرى والتي تتجسّد بتشكيلات واسعة من مساحات الالوان الزيتية أو أحد مكوّنات الجير الذي يتم تحليله بمشتق بترولي أو زيتي ذي مرجع صناعي، وهنا تتعمّد ريناتي بزج تلك الأعمال في أماكن عديدة لتحاصر بدورها ما كونته من الطبيعة الحرة، بالتأكيد كان القصد من وراء الحكاية كلها، هو التباين، فالمفارقة البصرية بين هذين المنحيين شاسعة بالتأكيد، وهذا لم يتأتَ من الهباء أو من فراغ، بل جاء نتيجة دأب وجهد متواصل، استطاعت ريناتي في هذا المضمار استغلال مهنتها كمهندسة بناء وعارفة في قصص التراب والحجر لتدعم موهبتها وجعلها لافتة..
فعملية خلط مطحون الصخر مع ألوان الماء توليفة تحتاج لعارف بالمعايير العلمية قبل الحسية، وحده صاحب الخبرة المهنية هو القادر على إخضاعها لسلطته .
هذا عدا عن عملية تقطير الزيوت وتفكيك مكونات الجير ليتم توظيفها لصالح الفن ولجعل القماش أو الورق قادراً على امتصاصها..
في خطّها الفني الثاني والذي يقوم على الاشتغال بألوان الزيت والاكريليك وغيرها، هذا وقد عمدت الفنانة ريناتي من خلال هذا الخط على إرسال إشارات في غاية الاهمية، وذلك عندما كرّست جزءاً كبيراً من تجربتها الفنية لرسم الحيوانات التي بدأت تنقرض وبشكل تدريجي لافت، كالسلاحف والقرود، وذلك للاسباب التي تتعلق تحديداً بسلوكيات البشر وتهديد الطبيعة.. وعلى سبيل المقال قتل نوع محدّد من الثيران وبطريقة بشعة جداً فقط لمجرد متعة المشاهدة..
تلك الرسوم لاقت انتباهاً وحضوراً في فعاليات فنية واجتماعية عدة، ارادت الفنانة ريناتي دق ناقوس الخطر.
للمقاربة والمقارنة لما انتهى اليه مصير الحيوانات المنقرضة التي يتمّ الكشف عنها من حين لاخر وتلقى المصير نفسه، واذا ما تداركنا الامر للحفاظ على التوازن البيئي، فلن يبقى منها بعد عدد من السنوات سوى رسوم على جداريات أو أحفور ناتئ في ثلم صخرة..
لعلّ ما ذكرته غير كافٍ للإحاطة الكاملة بتجربة فنية رائدة كهذه بمقالة صحافية.
بعيداً عما قدّمته من شروح قائمة بشروط معيّنة تنضوي تحت عتبة المقاربات والاشارات والرموز للربط بين خيوط تلك التجربة الفنية ببعضها البعض، لا بدّ لي من الاضاءة على لازمة نهائية تدلي في نهاية المطاف الى أن القراءة العينية تخضع لشروط القياس والمقاربة كما أسلفت. فالقياس هو الانعطاف حول الكثافات اللونية لتفكيكها لجعل القارئ قادراً على استشفاف المدلولات القرائية التي يتم الاتكاء عليها لتأويل الحبكة البصرية التي تم التقاطها، أما المقاربة فهي الإيحاء الذي يمكن للقارئ الرائي من تلمس فكرة العمل ليتم إسقاطه أو يواقعه مع الدليل الملموس. كل هذا لا يشفع لنا هذا العبور السريع من دون وضع نقطة نهاية السطر. للبدء بالحديث عن الفعالية الأهم،ألا وهي المجال الحسّي للفنانة والذي يتم القبض عليه وبصعوبة متناهية من خلال حركة الفرشاة على سطح اللوحة، فتلك الحركة والتي تتم قراءتها حسياً، لا يمكن لقارئ عادي التقاطها أو مقاربتها أو قياسها إلا من خلال إدراكه ومعرفته في فكّ رمز حركة الفرشاة وما يتخلل بين الخطوط اللونية من فراغات أو تكتلات غالباً ما نجدها على صدر اللوحة غير تلك التي يحاول العديد من الرسامين تعميتها بتغير دلالة اللون والتي تبدو في اللوحة الفنيّة كجزء غير منتمٍ..
ثمّة هدوء غامر وملحوظة وحركة انسيابية مدروسة غير متفلتة في تجربة الفنانة النمساوية ريناتي سوتريخ يمكن معايشتها بالحسّ الفنّي من دون عناء، وهذا ليس استسهالاً قرائياً لألوانها، بل لكونها استثمرت قدراتها المعرفية لدعم موهبتها الفنية والتي مكّنتها من تحويل الجماد هالة ضوء فنية.
* كاتب عربي/ فيينا.