الوجيزة القصصيّة بوصفها نصّاً… نسقٌ رمزيٌ
} الدكتور سلمان كاصد ـ العراق*
في البدء نرى أن ما ذكر حول الفارق بين الحكاية والحبكة يتلخّص بما جاء على لسان فورستر في (صنعة الرواية)، إذ قال مفرقاً بينهما:
«مات الملك ثم ماتت الملكة» هذه حكاية.
ويقول «مات الملك ثم ماتت الملكة حزناً عليه» هذه حبكة.
والاختلاف بين هاتين الصيغتين هو السببية، وهي ما تجعل الحكاية حبكة.
ونتساءل أيضاً، هل الوجيزة القصصية تمتلك سببيتها بحيث تقترب من أنواع القصّ الأخرى، بهذا الشرط أم أنّها تنفرد بشرطها الذاتي، وهو الانفتاح خارج الإطار بما يجعلها بلا أنظمة ولا قوانين ثم الانغلاق ثانية على نفسها بعيداً عن «الوصف المسهب» و»الحوار المطوّل» و»الاسترسال في السرد» أي «التسريد»، وكل ذلك يجعلها أكثر كثافة بما يطلق عليها «الميكروسردي» أو «بلاغة الإيجاز القصوى».
قد نتساءل، هل نجد في الانفتاح خارج الإطار انغلاقاً داخل النص ذاته؟
بحيث تخلق لها قوانينها الخاصة، وبذلك تبقي غايتها شبيهة بـ»الرمزية القصصية» أي «رمزية الإيجاز» إذا اعتبرنا الأخيرة ضمن النوع. هنا تصبح رمزية الإيجاز أكثر تأثيراً من تركيبتها الصياغيّة، أي (الإيجاز) بالمفهوم الكلاسيكيّ لتصنيف الأنواع.
عادة يفكر منتج الخطاب في الموجزة (الوجيزة) بتجاوز (بقصد) التسريد المطوّل، والتصوير الحوشي الى التركيز على مهمة اللمحة التي تقترب من «التكثيف»، وبذلك يقوم المنتج باختزال العالم بجمل قصيرة، بمعنى، «كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى» كما يقول ويسمّيها النفري بالرؤية، أي التحوّل من المعنى اللفظي إلى المعنى الإشاري مراعاة لنمط الخطاب وسياقاته، ومقام المتلقي وموضوع القول والمقصود منه حيث تنشأ علاقة عضويّة بين التكثيف والإشارة وكأنهما يمثلان أحدهما الآخر.
)المعنى) في الإيجاز يأتي دفعة واحدة لا مفاضلة فيها، بين معنيين ولا اختلاف فيه بين فهم متلقٍّ وفهم متلقٍّ آخر، الاثنان يتسلّمان رمز معنى الموجزة القصصية بكيفية واحدة.
في الإيجاز القصصي إدراك استثنائي، تأملي، بين النص والقارئ، اذ يتسيّد التأويل من الطرف الثاني بوصف الطرف الاول باثاً للرمز وهو المتسيّد عليه، أما الثاني فهو مفسّر للرمز، ولهذا فهو يمتلك حق التأويل، وهذا جزء من مفهوم نظرية التلقي التي أتى بها آيزر وياوس عن علاقة «القراءة بالتفسير» ونقصد هنا تفكيك شفرة الترميز.
تشتغل الوجيزة القصصيّة على المفارقة بين البنية العميقة للمعنى «الرمز» والبنية السطحيّة للألفاظ التي تخلو من الحشو، والتي تقود إلى جوهر المعنى «الرمز»، ولذا لا بدّ لنا أن نشخص ما تفقد الوجيزة (الموجزة) كي تقترب من أجناسيّتها :
الزمن بوصفه بعداً انتقالياً من حالة لحالة، فكلما كبر النص ازداد وضوحاً.
التسريد بوصفه عنصراً مكثفاً أحادياً في الوجيزة القصصيّة.
النسق السرديّ بوصفه مظهراً من مظاهر الرواية والقصة القصيرة ولا يظهر بوضوح في الوجيزة.
ونسأل.. إلى أي جانب يمكن أن نحيل الوجيزة؟ هل نحيلها إلى مفارقة الواقع المشاهد أم نحيلها إلى منطق العقل التركيبي التخيّلي لمنتج النص، أم نحيلها إلى الافتراضي الذي يحاول الاقتراب من الواقعي:
وجيزة 1- (يكتب أجمل القصائد، يهديها لها، تتلاعب بالضمائر، تغيّر الكلمات، تعيدها إليه، صارت شاعرة).
ومضة فكرية تقترب من الواقع، ولكنها تستحيل خيالاً في العبارة الأخيرة، (صارت شاعرة). وهذا ما يجعلها غير قادرة على أن تخلق نقطة (ارتكاز دلالي) تسمّى بالمفارقة.
وجيزة 2- (شحت لوصالهما الأرض، كان الكل معارضاً لزواجهما، طلب أن يوصلها لمنزلها للمرة الأخيرة، جمعتهما عبوة ناسفة انفجرت، تعانقا في السماء).
هنا نجد أن نقطة الارتكاز الدلالي فيّ عبارة «جمعتهما عبوة ناسفة» وما جاء بعدها «تعانقا في السماء» لا ضرورة لها «زائدة» وهو ما نطلق عليه بتدخل الذات الساردة للنص. وهذا ما يجعلهما نصين فارقا الدلالة.
يقول زكريا تامر :
الوجيزة 3 – (اشتريت لولدي أقلام رسم ملوّنة وورقاً، أخذ يرسم طيّارة ومسافرين، أشفقت عليه، مزقت الورقة، خوفاً من أن يختطف الطائرة غداً).
هنا خاتمة الوجيزة ذهنية ولو قال: (لأنني رأيت طائرة مختطفة) لأصبحت الخاتمة سردية وواقعية مطابقة لسرد الاستهلال في الوجيزة.
ويشتغل ما هو ذهني افتراضيّ مجاورة لما هو واقعي :
الوجيزة 4- (في الحقل.. ذي القيراطين بجوار شجرة التين الشوكيّ كانت أمه (الأميّة) تروي له قصة «صبر أيوب».. لما كبر وبجوار شجرة الورد في قصره الشاسع كان يروي لأولاده قصّة ثراء بيل جيتس.. ولم تفارقه ذاكرة الشوك).
هذه الزيادة في نهاية الوجيزة القصصيّة هي ما تُفسد النص كما وجدنا هناك (تعانقا في السما) ووجدنا هنا (لم تفارقه ذاكرة الشوك)، لأنهما زائدتان بتدخل السارد، وكلاهما إسقاط من منتج النص على نص يحتمل الكثير من التأويلات لولا تحديدهما بما يريد السارد، لكون النص لا يحتمل الإضافة، وبذلك بدت هذه الإضافة على صغر حجمها بين (كلمتين) و(ثلاث كلمات) ثقيلة لا بسبب حجمها، بل لكونها لا تمتلك مبرراً لوجودها في نص الوجيزة لكونها خارج نصي.
إن الوحدة الكلية للوجيزة القصصية، تعيد لنا صياغة تماسك العالم، أي أنها المقابل الدلالي لوحدة العالم الذي تتناوله.
إن الوجيزة باهتمامها بالمدهش واليومي والعادي العرضي والمألوف من أجل تغريبه، تحاول جاهدة أن تحتفي بالذروة التي تأتي سريعاً، بل ربما تسبق حتى تصوير الكلمات وتشكلها في ذهن المتلقي. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه «تسارع المقدّمات إلى الإعلان عن الخواتيم»، وكل ذلك يجري وفق مفهوم التسريع تقنياً، بوصفه أسلوباً بلاغياً في القصّ يتجلّى عادة بـ «مرّت السنون» الذي هو من أكثر الأساليب السردية في الاختصار.
وكل ذلك يوجد ما يشبهه في تقنيات السينما الكلاسيكية التي تختزل الحدث إلى أقصاه لحرق مراحله زمنياً، كي تصل بالاستهلال إلى خاتمته، بلا جهد تصويري أو سردي والذي يعتبره منتج النص حلية لا فائدة منها دلالياً بتعاملها مع الزمن لا مع الدلالة.
إن الحداثة وما بعدها تتمركز على تأصيل النوع واللعب باللغة وترسيم الهوية مع دعوى تكريس الهويّة التي هي مظهر من مظاهر العصر ما بعد الحداثي، وبذلك تم تصنيف هذا النوع تحت مسمّيات أهمها (الصدمة الجديدة) من قبل وبرت شابارد وجيمس توماس (2007) و(الومضة المستقبلية) في (2006) حيث تعاملا معها بوصفها نوعاً مستقلاً بعد أن عدّه النقاد في السنوات الأخيرة من القرن العشرين نوعاً فرعياً من القصة القصيرة، وربما فرعاً على الفرع كما ذكر (شابارد) في مقدّمة كتابه «القصة القصيرة جداً.. المباغتة.. أقاصيص أميركية».
الوجيزة القصصية هي ما نطلق عليه بالومضة في الشعر باعتبارها جزءاً من الأدب الوجيز الذي يتداول الآن، ولذا أقترح تسمية أقصر نص قصصيّ بالوجيزة.
*الأدب الوجيز