المقاومة ترجمة لإرادة أمة عصيّة على الانكسار
رامز مصطفى*
في الخامس والعشرين من أيار عام 2000 كان آخر جندي صهيوني يغادر لبنان، ليس انصياعاً لشرعة الأمم المتحدة، وتنفيذاً للقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن بالأمم المتحدة في 19 آذار 1978، بل أجبر على تنفيذه تحت وطأة ضربات المقاومة بقيادة حزب الله المجاهد، باعترافات رئيس حكومة الكيان السابق إيهودا باراك، من خلال المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «معاريف» العبرية، في الأول من شهر أيار الحالي بعنوان «كلّ الحقيقة من وراء كواليس الانسحاب من لبنان».
الانتصار المدوّي جاء ليؤكد أولاً، أنه بالمقاومة، والمقاومة وحدها تتحرّر الأوطان من رجس الاحتلال، لا بالتنازلات وتوقيع معاهدات الإذعان. وثانياً، أنه في اللحظة التي أغلق فيها جنود العدو الصهيوني البوابات الفاصلة بين فلسطين المحتلة ولبنان إلى غير رجعة، أغلقت معه بوابات زمن الهزائم، لتُفتح مكانها بوابات زمن الانتصارات.
الانتصار التاريخيّ الذي بدأ العمل عليه تراكميّاً، منذ أن احتلّ كيان الاحتلال الصهيونيّ لبنان، ودخل بيروت بعد خروج منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية منها، بموجب الاتفاق الذي توصّلت إليه المنظمة مع المبعوث الأميركي فيليب حبيب في 18 آب من العام 1982. حيث أتت عملية «الويمبي» النوعية في منطقة الحمراء في بيروت، وما تبعها من عمليات في مناطق المتحف وجسر سليم سلام والمزرعة وخلده والإقليم، وصولاً إلى سيل من العمليات الاستشهادية في عمق مناطق الجنوب والبقاع الغربي، والتي كانت فاتحتها عملية الشهيد الاستشهادي أحمد قصير، الذي فجّر مقر الحاكم العسكري الصهيوني في مدينة صور صباح يوم 11 تشرين الثاني من العام 1982. إلى أن تحقق الانتصار ودحر المحتلّ عن أرض الجنوب اللبناني من دون قيد أو شرط، يلمّ ذيل هزيمته، بعد مضيّ 22 عاماً من عمر احتلاله لأرض الجنوب البطولة والعزة والكرامة.
الانتصار في 25 أيار عام 2000، قد شكّل منعطفاً تاريخياً هاماً، حيث أعطى قوة دفع وتأكيد على أنّ مسار الصراع مع الكيان الصهيوني لن يتوقف، على الرغم من حالة الإحباط التي تركتها اتفاقات «أوسلو» في العام 1993 على واقع قوى المقاومة، والتأثير على مسار الصراع. فكانت أولى نتائج هذا الانتصار، أولاً، اتسعت مساحة الاحتضان الشعبي والرسمي للمقاومة حتى غدت لدى اللبنانيين بكلّ تلاوينهم ومشاربهم الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة والسياسيّة وحتى «الطائفيّة»، القاسم المشترك بينهم فلا خلاف حولها وعليها، فكرّست ثقافة أخذت جذورها عميقاً في النفوس بما اعتمرها من مشاعر وعواطف وأحاسيس في القلوب والعقول. وفي محيط لبنان حيث تمّ احتضانها من قبل الشعوب العربية والإسلامية وحتى لدى الكثير من شعوب العالم الرافضة الانصياع للمشيئة الغاشمة للإدارة الأميركية وجبروتها. وثانياً، اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) في 28 أيلول 2000، أيّ بعد أربعة أشهر على هذا الانتصار، عندما اكتشف الشعب الفلسطيني بفصائله، وبعد مرور سبع سنوات على أكذوبة اتفاقات «أوسلو» وما تركه من تنازلات خطيرة على مصير القضية الفلسطينية، التي يُعمل اليوم أميركياً وصهيونياً ورجعياً على تصفيتها عبر ما يسمّى بـ «صفقة القرن». وثالثاً، هذا الانتصار المدوّي، قد أسّس لمسلسل الهزائم المتلاحقة التي ألمّت بالكيان في أعوام 2006 في لبنان، و2008 – 2009 و2012، وفي تموز 2014 في قطاع غزة المحرّر. ووضعت قادة الكيان والمجتمع الصهيوني أمام أزمة وجودية ولأوّل مرة منذ قيام الكيان الغاصب على أرض فلسطين عام 1948، والفضل في ذلك يعود لهذا الانتصار الذي حققته المقاومة وحزب الله في لبنان، ومن ثم في فلسطين، وحواضنها الاستراتيجية في كلّ من سورية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
في المقابل القوى الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، من كيان صهيوني، وقوى رجعية. لم يرق لهم هذا الانتصار، لما تركه من تحوّلات وتطوّرات استراتيجية على مجمل الأوضاع في المنطقة، لصالح محور قوى وحركات المقاومة. فقد بدأت الإدارة الأميركية وحلفاؤها وأدواتها، التحرك لمواجهة تلك التطورات بهدف وأدها وإجهاضها، وهذا ما عبّرت عنه وبكلّ وضوح، وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، خلال العدوان الصهيوني على لبنان في العام 2006، بأنّ ما يشهده لبنان هو مخاض لـ «شرق أوسط جديد». حيث كان هذا العدوان هو باكورة ما عملت ولا زالت تعمل عليه أميركا وحلفاؤها في سياق ممنهج هدف إلى شيطنة حزب الله، من خلال إقدام كلّ من مجلس التعاون الخليجي ووزراء الخارجية والداخلية العرب في العام 2016 على اتهام ووصف حزب الله بـ «الإرهاب». وهذا سُحب أيضاً على محور المقاومة بدوله وقواه، بكلّ الوسائل والأساليب، بما فيها تدمير المنطقة، والعمل على إسقاط الدول الوطنية، عبرّ ما سمّي زوراً بـ «الربيع العربي» منذ أكثر من عشر سنوات. وعلى الرغم مما خلفه هذا الربيع الصهيوأميركي والرجعي من تدمير وكوارث اجتماعية وحياتية واقتصادية وعمرانية وأمنية، لم ينجح هذا التحالف في القضاء على محور المقاومة بدولها وقواها، الذي استعاد حضوره وقدراته، انطلاقاً من الانتصارات التي تحققت في الميدان السوري بفضل صمود الدولة والجيش السوريّ وحلفائه.
بعد مضيّ 20 عاماً على انتصار المقاومة، التي ننحني إجلالاً وإكباراً لدماء شهدائها وجرحاها، وتضحيات مجاهديها، ولسيد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله. هي اليوم أكثر حضوراً وقدرةً وإمكانية في الردّ على العدوان أو مجرد التفكير به من قبل قادة الكيان، الذين يقفون عاجزين عن فعل أيّ شيء حيال تنامي قدرات المقاومة وتطوّر أساليبها القتالية. وهذا ما يتحدث عنه القادة العسكريون والأمنيون في الكيان، من أنّ حزب الله في حال وقوع الحرب، يمكنه قصف عمق الكيان على امتداد جغرافيته، بما فيها المواقع والمناطق الحساسة والحيوية فيه، ومفاعل ديمونا من ضمنها، فهو يمتلك وبحسب تقديراتهم 140 ألف صاروخ، ومن ضمنها صواريخ دقيقة. مضافاً لذلك ليس هناك استبعاد من دخول مقاتلي الحزب إلى مستوطنات شمال فلسطين المحتلة. وما ينطبق على الكيان، ينطبق على الدول المُطبعة، والساعية إلى تطوير علاقاتها التحالفية معه، فهي لن تتمكن النيل من حزب الله، أو التشكيك بصدق توجهاته واتهامه العمل لصالح أجندات خارجية. وستبقى المقاومة في لبنان كما في فلسطين عصية على الانكسار والنيل منها، لأنها انعكاس لإرادة أمة مصمّمة على الحياة والكرامة والعزة، وتأبى الذل والمهانة والانكسار.
*كاتب فلسطيني.