لم يكن على جدول أعمال الخلايا الأمنية والدبلوماسية الأميركية التي تقود المواجهة مع إيران مع تلمّس رغبة إيرانية بتهدئة المواجهة، من البوابة العراقية التي أعلنت منها طهران بدء معركة إخراج الأميركيين من المنطقة، أن لدى طهران العزيمة والإرادة على تحرّش استراتيجي بحجم إرسال ناقلات نفط عملاقة تحمل مشتقات نفطية إلى فنزويلا، في دائرة السيطرة العسكرية الأميركية، وتعود محملة بالذهب الفنزويلي وبأنواع من المعادن المشعّة المهمة في البرامج النووية، فجاء الإعلان الإيرانيّ مفاجئاً بالكامل ومصدراً للذهول في أشد دوائر الاستخبارات متابعة للشأنين الإيراني والاستراتيجي، كما تؤكد تقارير مراكز الدراسات الأميركية العديدة.
كانت واشنطن تخرج للتوّ من اختبار قوة مع فنزويلا عبر تحرش تكتيكي على البحر الكاريبي من خلال جماعات مسلحة مدعومة من واشنطن حاولت القيام بإنزال على شاطئ فنزويلا بعد تأمين نقطة انطلاقها من كولومبيا المجاورة، ونجحت كاراكاس في احتواء العملية وإحباطها، ليتصاعد التوتر في الكاريبي، البحر المجاور للشواطئ الأميركية الذي تطل عليه فنزويلا، والذي شهد قبل ستين عاماً أكبر أزمة سوفياتية أميركية كان عنوانها إرسال صواريخ سوفياتية نووية لتأمين قدرة ردع كوبية تمنع مشاريع الغزو الأميركية الموضوعة على الطاولة.
أعاد القرار الإيراني بتوجيه الناقلات الخمس نحو فنزويلا إلى الذاكرة مشهد المواجهة التاريخية، بين موسكو وواشنطن قبل ستين سنة، وبدا للوهلة الأولى أن واشنطن قررت المواجهة، فصدر إنذار عسكري أميركي رافقته عملية نشر لمدمرات أميركية في الكاريبي لاعتراض الناقلات الإيرانية ومنعها من بلوغ شواطئ فنزويلا، بينما تعمّدت إيران اختبار النيات الأميركية بتكرار مشهد حجز ناقلاتها قبل شهور في مضيق جبل طارق فتعمّدت سلوك طريق بحرية يتوسطها المضيق الذي يسيطر عليه البريطانيّون، فكان التراجع الأميركي الأول بعدم التعرض للناقلات في المضيق ومواصلة إبحارها نحو فنزويلا. البداية بعد رد إيران على التهديدات بأنها سترد بقوة على أي استهداف لناقلاتها، فالردع الشعبي الناشئ عن تفشي كورونا للدول والحكومات لتجنب خيار الحرب، يطال البدء بحرب وليس الرد على من يبدأها.
وصول الناقلات والانكفاء الأميركي من طريقها يعني بداية مرحلة جديدة في التوازنات، أهمها سقوط الوهم الأميركي بالرهان على أن الردع الذي نشأ عن تفشي وباء كورونا ضد الحروب، منح واشنطن نقطة تفوق على طهران لتواصل عليها المزيد من الضغوط في الحرب المالية المفتوحة، والبديل الإيراني للمواجهة الميدانية جاء بالتشبيك الاقتصادي العابر للقارات بين الحلفاء في مواجهة واشنطن، بحيث وفرت النقلة الاستراتيجية الجديدة لإيران استثمار ردع كورونا لمنع الحروب لتفرض معادلتها المالية التبادلية التي وفرت لفنزويلا فك الحصار النفطي الأميركي عن حاجات سوقها، ووفرت لإيران بديلاً وازناً للدولار الأميركي هو الذهب الفنزويلي، ووضعت واشنطن بين خياري تحمل مسؤولية أن تكون المبادرة للحرب أو التراجع فتراجعت.
نجاح المثال الأصعب سيعني فتح الباب لنماذج أخرى أقل صعوبة، بين إيران والصين وإيران وروسيا، وإيران وسورية، والأميركي لن يكون قادراً على فعل شيء سوى المزيد من القرارات المالية التي تهمشها التجارة التبادلية العينية، التي لا تمر بالنظام المصرفي الذي يتحفز الأميركيون للضغط عليه.