هل يحتاج لبنان الى نظام جديد؟
العميد د. أمين محمد حطيط*
عندما أعلن لبنان الكبير في العام 1920 من قبل المفوّض السامي الفرنسي، كان جزءاً ممن اعتبروا بموجب الوضع الجديد لبنانيين في الدولة الوليدة، كان هذا الجزء يرفض الإعلان ويرفض قيام دولة تسلخهم عن سورية التي يعتبرونها الوطن الكبير لهم، شأنهم في ذلك شأن العلويين والدروز في سورية الذين رفضوا الانسلاخ عن الوطن الكبير وأطلقوا بلسان صالح العلي العلويّ صرخة «أكون مواطناً بسيطاً في سورية الكبرى ولا أقبل أن أكون حاكماً رئيساً في دولة قزم تخصّص للعلويين»، وكان للدروز وللعلويين ما أرادوا واستمرّوا جزءاً من الوطن الأمّ سورية، أما في لبنان فإنّ فريق رفض لبنان الكبير لم يصمد ولم يحقق غرضه بالبقاء في سورية، وأذعن للأمر الواقع وقبل بأن يكون الشمال والجنوب والبقاع جزءاً من هذه الدولة.
ولما دنت ساعة رحيل فرنسا وإعلان استقلال لبنان في العام 1943 تنازعت القوى السياسية اللبنانية المواقف بين فريق تدغدغ أفكاره أحلام العودة إلى سورية وفريق يتمسك بفرنسا أمّاً حنوناً تحضنه وتحميه من المحيط الشرقي الذي يرى أنه لا يتجانس معه بالدين، حتى ويغالي البعض بالقول إنه لا يتجانس معه بالقوميّة إلى حدّ كبير. وكحلّ وسط بين الفريقين ابتدعت معادلة تجمع رفضين بحيث يتنازل الفريق القومي عن طلب العودة إلى سورية ويتنازل الفريق اللبناني عن طلب الحماية الفرنسية، ويشترك الفريقان في العيش في لبنان كمواطنين يبتدعون صيغة حكم تحفظ لهم حقوقهم وتحفظ لبنان المستقل كما أعلنه المفوض السامي غورو، وهكذا نشأ الميثاق الوطني اللبناني المتضمّن موافقة مكونات الشعب اللبناني على العيش المشترك في دولة مستقلة، وابتدعت لهذه الدولة صيغة حكم طائفي توزع السلطة والحقوق على أساس طائفي أما الواجبات فتلقى على عاتق المكلفين على أساس فردي.
ولأنّ الصيغة الطائفية أخلّت بالمساواة بين الأفراد في الحقوق ومنحت فئة من اللبنانيين امتيازات جعلتها الفئة الحاكمة الممتازة، وصنّفت الطوائف من حيث الحقوق في درجات متفاوتة بحيث حرمت الطوائف الأقلّ عدداً من حق المشاركة بالسلطة أو تقلّد الوظائف العامة العليا ما أنشأ الشعور بالغبن، في مقابل تمسك أصحاب الامتيازات بامتيازاتهم مبرّرين ذلك بالخوف على المصير. وفي النتيجة نشأت في لبنان عقدتان عقدة الخوف وعقدة الغبن. عقدتان أفسدتا لدى الكثير الشعور بالمواطنية حتى وبالانتماء إلى لبنان وجعلتهم يتطلعون إلى الخارج للاستقواء به، ما فرض على لبنان واقعاً من عدم الاستقرار جعل الأوضاع تنفجر داخلياً مرة في كلّ عقد من الزمن، ما فرض على أصحاب الشأن مراجعة الصيغة مع التمسك بالميثاق، وحتى يطمئن الخائفون على المصير أطلق السيد موسى الصدر شعار «لبنان وطن نهائي لكلّ أبنائه»، وهو الشعار الذي أدخل في الدستور بعد اعتماده في اتفاق الطائف الذي ختم 14 عاماً من الحرب الأهلية في لبنان وأعاد توزيع السلطة والنظر بصيغتها على أسس جديدة.
لقد أمل الكثيرون في لبنان ان يشكل اتفاق الطائف 1989 مخرجاً يُرسي الاستقرار القائم على المساواة بين اللبنانيّين، خاصة أنه تضمّن من النصوص ما يعالج مخاوف وطموحات معظمهم. فنصّ على نهائيّة الكيان وعلى العلاقات المميّزة مع سورية وأعاد توزيع السلطة، كما نصّ على عدم مشروعيّة السلطة التي لا تراعي العيش المشترك بمعنى السلطة التي لا يشارك الجميع فيها، وأخيراً نصّ على وجوب إلغاء الطائفية السياسية لإقامة دولة المواطن بدلاً من دولة الطوائف، وأشار إلى وجوب المرور بمرحلة انتقالية مؤقتة تراعى فيها حقوق الطوائف في السلطة والوظائف العامة ريثما تلغى الطائفية السياسية.
بيد أنّ التطبيق جاء مجافياً للاتفاق، فمن حيث النهائية ظلت الأصوات تُسمع بإعادة النظر بالكيان (تقسيم… فيدرالية إلخ…) وفي العلاقة مع سورية انقلبت لتكون سورية عدواً للبعض وصديقاً حليفاً للبعض الآخر، وفي السلطة قامت بدعة الترويكا واختصرت الدولة بـ 3 أشخاص تقريباً وظلت طوائف مبعدة عنها (العلويون مثلاً لا وزير لهم) وحجب موضوع الطائفيّة السياسيّة ووضعت دونه الشروط التعجيزية من قبيل معالجة النفوس قبل النصوص، او القانون الموحّد للأحوال الشخصية وما إليه…
تسبّب التطبيق المخزي للدستور ولاتفاق الطائف بكوارث متعدّدة الوجوه حلت بكلّ لبنان واستشرى الفساد الذي تغذيه الطائفية، وتشكلت مواقع لشخصيات استبدادية تصادر طوائفها وتراكم الأموال سرقة واغتصاباً من المال العام، في مقابل تردّي كلّ شيء في الدولة التي انهارت ماليتها وانهار نقدها وشحّت مواردها ووقف معظم مواطنيها على عتبة الفقر والمجاعة، وأصبح الخوف على المستقبل شعوراً مشتركاً بين كلّ اللبنانيين.
إنّ ما عاناه لبنان ويعانيه اليوم هو نتيجة حتمية لاعتماد نظام طائفي ظالم يخلّ بالمساوة بين المواطنين، ولما رمّم النظام بنصوص قيل إنها مناسبة، فإنّ التعديل لم يطبق لا بل شهد الواقع تطبيقاً معاكساً، ولذلك كانت صرخات تطالب بمراجعة النظام مجدّداً، وأننا نرى انّ لهذه الصرخات مبرّرها فالكلّ يجمع بصراحة أو ضمناً على أنّ الوضع القائم لا يمكن ان يستمرّ حتى أولئك الذين يتمسّكون بالنصوص القائمة المعطل معظمها يعرفون انّ الاستمرار فيها أمر مستحيل وأنّ التطوير أو الإصلاح أو التعديل أمر لا بدّ منه. اعتقاد نكاد نقول إنه يشمل الجميع كما يشملهم الخوف على المصير كما قدّمنا ولا يتمسك بما هو قائم إلا قلة قليلة جداً من المستفيدين الذين هم فئة الـ 2% التي جمعت الثروات من خيرات الوطن.
وعليه ومنطلقين من مسلّمة أنّ الوضع القائم غير مقبول بات واجباً البحث عن حلّ او مخرج من المأساة القائمة، ولكن هنا ينبغي الحذر في اختيار الحلّ. إذ لا يقبل ان ننتقل من وضع ملتهب إلى وضع متفجّر أسوأ، ولا يمكن أن ننتقل من وضع غير مستقر إلى وضع زلزالي، وقبل أن نخوض في الحلّ الأسلم علينا الاتفاق حول آلية الوصول إليه. وهي آلية يمكن ان تبتكر لبنانياً من خلال النصوص الدستورية القائمة رغم انّ دستورنا يعتبر من أشدّ الدساتير جموداً، أو من خلال مؤتمر وطني تعتمد فيه أولاً مبادئ وطنية عامة تراعي نهائيّة الكيان والمساواة على أساس المواطنية وتحفظ الطوائف بصيغة لا تمسّ بحقوق الأفراد وكرامتهم، فهل نبادر إلى البحث؟ أم ننتظر الطوفان الأكبر أو الحريق الشامل؟
وفي هذا السياق نرى وجوب قبول أيّ يطرح يشكل في ذهن أصحابه مخرجاً لمأزق لبنان القائم، ويناقش بعقل منفتح وفقاً لأسس وطنيّة تمنع المسّ بوحدة لبنان وأمنه وسيادته وحقوق المواطن فيه ومبادئ العدالة والمساواة. فإذا وافقها يعتمد والا يستبعد، قبولاً او استبعاداً يتمّ على درجتين أولاً في الهيئة المصغرة التي تناقشه وتوصي به ثم من قبل عامة الشعب بناء لاستفتاء شعبي حقيقي. أما المكابرة ورفض المراجعة او إعادة النظر لمجرد الرفض فإنه يعني الإصرار على دمار الوطن وتهجير سكانه بحثاً عن لقمة العيش، من دون أن نغفل احتمال الانفجار الأمني الذي لا يمكن تفاديه مع اشتداد الجوع وتسارع الانهيار العام.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.