هل يخرج لبنان من أسر النظام الطائفي؟
} د. كلود عطية
لبنان بطوائفه ومذاهبه وأحزابه ومنظماته الأهلية المنتشرة على امتداد المساحة الجغرافية له، يعاني انقساماً حاداً بين التبعية للمشروع الصهيو – أميركي والأوروبي، وبين الانتماء الى محور المقاومة وامتداداته الجيو سياسية وارتباطاته الايديولوجية المتباعدة ما بين الدين والعلمانية.
أما ما يثبت هذا الواقع هو انقسام اللبنانيين شبه الكلي ما بين المحورين، الأمر الذي دفع باتجاه بناء منظومتين فكريتين متصارعتين في العقيدة والفكر والثقافة والرؤية السياسية والإقتصادية وفي العلاقات الدبلوماسية المحلية ـ الاقليمية والدولية! ما جعل من الدولة اللبنانية مجرد هيكل مادي فارغ من الروح الإنسانية والوطنية الواحدة، مع إلغاء تامّ لمفهوم المواطنية وصلت تداعياته الى حدود النخبة التي انقسمت بدورها وتخلت عن موضوعيتها الثقافية والعلمية وارتهنت بالعقل الى الشرع الأقوى الذي ينظم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلائقية في لبنان.
تستثنى من هذا المشهد، الأحزاب العلمانية المقاومة، وعلى رأسها الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي يحمل فكر المؤسس أنطون سعاده باعث النهضة السورية القومية الاجتماعية. بالاضافة الى أحزاب تربط بين العقيدة الدينية والمقاومة، وعلى رأسها حزب الله، وسماحة السيد حسن نصرالله الذي عزز الثقة بين المقاومة وجمهورها لمواجهة المشاريع الأميركية ـ «الاسرائيلية» والخطر الإرهابي.
لبنان، منذ اتفاقية سايكس بيكو أقله، ومروراً بالحرب اللبنانية وما بعد اتفاق الطائف حتى اليوم، هو أسير نظام طائفي يستولد سلطات حاكمة لا تخرج عن سياقاته وأهدافه، في حين أنّ المنظومة الفكرية المقاومة لم تشترك بتشكيل السلطة السياسية اللبنانية ولم يكن لها أيّ دور في تركيب النظام السياسي اللبناني… وتقتصر مشاركتها في الحكومات المتعاقبة بعد اتفاق الطائف على الاستجابة لمقتضيات ما يسمّى الوحدة الوطنية.
أما الشرع الأقوى والأعلى في لبنان فهو شرع النظام الطائفي المستبدّ المحتكر المختزل للأحزاب والطوائف والمنظمات والمؤسسات وكلّ المجتمع المدني/ الأهلي. وهو الحاكم بأمر من أتى به الى الحكم.. وقد يجوز للبعض أن يقول: إنه حاكم بأمر الشعب. وهذا ما يستدعي التحليل والتفسير، والدخول في قراءات معمّقة ندرك من خلالها كيف نعرف اللعبة السياسية، وما هي طريقة اللعبة، ومن اخترعها، ومن هم اللاعبون المختارون، ومن الذي يختار.. بالاضافة الى شروط اللعبة؟ ومن الذي يضع هذه الشروط.. ما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة تعيد نفسها كلما أردنا الدخول لمعرفتها.. ونقص المعرفة الكاملة باللعبة السياسية، هو السياسة نفسها..!
هذه السياسة التي لا يتقنها اللاعبون الصغار الذين ينفذون الأوامر.. بل يدّعون معرفتها، لإسقاط ما يتلقونه من تعليمات على الشعب المنخرط في اللعبة السياسية كحقل تجارب يشبه حقل الألغام، ما يفسّر لنا قدرة النظام الطائفي على إعادة انتاج نفسه، وتمرير رسائله، في وقت يشكل فقدان المناعة الوطنية للمتلقي/ الشعب عاملاً أساسياً في قبول هذه الرسائل والعمل بها، وبالتالي البقاء، بل الإصرار على البقاء، في مجتمع الموت والجهل والفقر والاقتتال المذهبي والطائفي!
نحن أمام حالة شاذة تستحق الدراسة والبحث والتقصّي.. هذه الحالة التي تفشت في البلد ومؤسساته الدستورية، واحتكرت السلطة والثروة، بالاعتماد المفرط على أدوات القهر والعنف والإذلال وإهانة الإنسان بلقمة عيشه.
هذه الحالة الشاذة هي نتاج نظام طائفي بهويتين.. هوية لبنانية ورقية مادية، وهوية قاتل مأجور يستهدف أحلام اللبنانيين وحقوقهم التي شرّعتها المواثيق الدولية بالحبر والدم.. وبالتالي نحن أمام أدوات نظام طائفي تتوزع على المراكز الأساسية المرئية، وغير المرئية، للتحكم بكلّ جزء من أجزاء الدولة.. ومعظم هؤلاء يتبعون أمراء الحرب الذين شاركوا فعلياً على الأرض، أو في غرف العمليات السوداء، أو من خلال التمويل من الجيوب الخليجية، الإقليمية والغربية.
أما استمرارية هؤلاء في التحكم بمفاصل السلطة فلم يكن محض صدفة، وليست الأنظمة الانتخابية المركبة وحدها المسؤولة عن إعادة إنتاجهم وتفريخهم وترسيخ تحكمهم حتى اللحظة.. بل بالإمكان القول وفقاً للقراءات المعمّقة في فلسفة سياسة الدول الكبرى الاستعمارية والتخريبية، ووفقاً للتخطيط الاستراتيجي التجاري والجيو سياسي لهذه الدول، أننا أمام علاقة مشبوهة بين العقل المدبّر والعقل المريض.. بين المصدر للأفكار التخريبية والتقسيمية والتدميرية وبين المستهلك العاجز عن الإنتاج.. والنتيجة الحتمية لهذه العلاقة الأحادية، مزيداً من تصديع الوحدة بالانقسام والإيغال في الفساد.. وبما يحقق يؤبّد النظام الطائفي، الذي هو مصلحة بيد صانعيه الدوليين.
إن ما يعكس قدرة النظام الطائفي على تنفيذ أجندات صانعيه، اعتماده على استراتيجيات تستغلّ الواقع اللبناني المتعدّد الولاءات الطائفية والمذهبية.. ومن شأن هذه الولاءات أن تؤدي إلى هلاك لبنان، وهي من الأسباب التي تؤدّي إلى انهيار اقتصاده وتمدّد انتشار وباء الفساد.. بالإضافة الى الانهيارات المتتابعة في النظام التربوي/ التعليمي العام وتعزيز النظام التربوي المطيّف.
من هذا المنطلق، فإنّ النظام الطائفي المتحكم، هو من يسيطر على مفاصل الدولة وبجعلها دولة تسلطية حاقدة على اللبنانيين، وصولاً إلى الحكم الشمولي المطلق. وهو في حكمه لا يعبّر إلا عن ذاته وارتباطاته، بعيداً عن جماعته التي تمثل هويته الأولى، قبيلة كانت او طائفة أو حزب أو عائلة. بل هو الحاكم الذي ينتمي إلى تكوين ايديولوجي سياسي مستقلّ عن الدولة، على الرغم من تدخله المباشر في خلق الأمراء الصغار المحيطين بمملكته والعاملين معه، بحيث يعمل على إعادة انتخابهم أو توظيفهم وتشريع تواجدهم إلى جانبه في مهمات يمكن اختصارها بترسيخ وجود النظام وسيطرته وتحكمه وتنفيذه لاستراتيجية حكمه بشكل لا يغضب من يساهم في ديمومته.
النظام الطائفي وبقوة من يدور في فلكه يستطيع إعادة إنتاج نفسه، من خلال نقل السلطة بتكوينها وايديولوجيتها وأسباب وجودها الى الوريث، الذي يخضع بدوره الى دورة صناعة العملاء ويتدرّب تدريباً محكماً على كيفية تدمير مجتمعه وتجويع شعبه باسم الحرية والديمقراطية والانفتاح وكلّ المفاهيم الملوّنة… ويبقى نجاح التطعيم، في ربط عقل الوريث وفكره وثقافته وطبيعته النفسية الروحية والجسدية، بشكل غير قابل لفكّ هذا الارتباط.
على المستوى السياسي؛ لا يمكننا وصف النظام السياسي اللبناني بأنه نظام طائفي بالمفهوم التقليدي، خاصة أنّ هذا النظام لا ينفذ استراتيجية الطائفة، ولا يهمّه مصلحة أبناء الطائفة. بل يجوز له خلق الأمراء الصغار الذين يدورون في فلكه من هذه الطائفة او تلك.. وإنْ كان الحاكم هو نفسه على رأس الطائفة، فهو أيضاً ينفذ استراتيجية من صنعه.. وليس مصلحة الطائفة! أما الطائفية فهي بند مهمّ من بنود التخريب يزرعه النظام بين الشعب لينبت ما يشاء من الخراب.. وقد يزرعه في قلب السلطة السياسية باسم التعددية والتوازن والعلاقات الأخوية، إلا أنه يحوّله الى منصة نزاع دائم طائفية – مذهبية عائلية تتحوّل إلى مصدر لتأبيد النظام وحكمه الشمولي المطلق، وبمباركة وموافقة من المراجع الدينية.
هنا تبرز قدرة النظام في تنفيذه للإملاءات عبر خلق علاقة مشبوهة في كلّ تفاصيلها بينه وبين رجال الدين، عنوانها المال والسلطة والصلاة على روح الوطن والمواطن…