آفاق الانتخابات الرئاسية تحت سقف الفشل في التصدي لوباء كورونا
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
يسعى النظام السياسي الأميركي إلى التكيّف مع ما أفرزته حالة كورونا من شللٍ وتعميق لأزمته البنوية التي كشفها الوباء بصورة جليّة، تمثّلت بالعَجز والتخبّط والفشل في احتوائه.
ويعمل هذا النظام جاهداً للتوصّل إلى صيغة تضمن استمرار آليات انتخابية مقبولة للاستحقاقات الانتخابية. ويتمّ اختبار إجراءات العودة الى الحياة الطبيعية وضوابطها في معظم الولايات دون التيقّن مما ستحمله الأيام والشهور المقبلة من نتائج، في ظل أجواء الخوف والحَذَر من مواجهة موجة متجددة لتفشّي الوباء.
يرغب الحزبان، وخصوصاً الرئيس ترامب، في أن يتحقّق مناخ شبه طبيعي قبل موعد الانتخابات بفترةٍ كافيةٍ كي لا يتمّ الاضطرار إلى تأجيلها ودخول النظام في أزمة مُستعصية.
لتاريخه، تتعثّر محاولات الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، للتفاهم على دفعة رابعة من خطط الطوارئ لإنقاذ الاقتصاد، إذ يتوخى كلّ طرف أن تُسهم في خدمة أجندته الانتخابية.
أمام تحديات فايروس كورونا والأفق الضبابي للوضع الاقتصادي برمّته، لا يزال تعويل الطرفين سارياً على الاستمرار بالجدول الزمني للانتخابات الرئاسية المقبلة، التي قد تشهد تطوّرات غير مسبوقة في التاريخ السياسي للبلاد، واحتمالات متعدّدة ربما تفضي لتأجيل الموعد المُقرّر، على الرغم من ضآلة حظوظه.
البوصلة العامة لنتائج الانتخابات “الخاصة” التي جرت مؤخرا في ولايتين لمقعدين شاغرين في مجلس النواب، إما بدواعي استقالة العضو أو الوفاة، تساهم حالياً في تحديد الأفق والخطاب السياسي للطرفين، لا سيما الحزب الفائز.
بهذه الخلفية، استطاع الحزب الجمهوري الفوز مؤخراً بمقعد نائب عن الحزب الديمقراطي لولاية كاليفورنيا في الكونغرس، استقالت من منصبها بعد تسرّب شريط فيديو عن علاقة عاطفية تجمعها بأحد مساعديها.
أهمية الفوز للجمهوريين تتمثل في أنّ المقعد لم يُحسب تقليدياً لصالح مرشّح الحزب الجمهوري منذ عقدين من الزمن، بل إنّ المرشّحة السابقة للرئاسة عن الحزب الديموقراطي، هيلاري كلينتون، فازت بأصوات الدائرة الانتخابية عينها بنسبة 6% في العام 2016. وفاز المرشّح باراك أوباما بأصوات الولاية في دورتين مُتتالين في العام 2008 والعام 2012، بِنسَب مُريحة.
كذلك فاز مرشّح الحزب الجمهوري في جولةٍ انتخابيةٍ خاصة في ولاية ويسكونسن بنسبة كبيرة (14%)، والذي أيضاً لم يكن متوقّعاً نجاحه في ولاية تُعتبر ليبرالية، على الرغم من تصويت أغلبيّتها لصالح المرشّح الرئاسي دونالد ترامب في الجولة السابقة.
استناداً إلى تلك الجزئية المُشجّعة عادة في المشهد الانتخابي العام، قد لا تُترجم لصالح الحزب الجمهوري في النتائج النهائية، سواء في السباق الرئاسي أو في تحقيق رغبته في السيطرة على مجلس النواب، إلى جانب احتفاظه بأغلبية التمثيل في مجلس الشيوخ.
ما تشهده الساحة السياسية في الأيام الأخيرة من اتهاماتٍ مُتبادلةٍ بين الرئيس السابق باراك أوباما والرئيس دونالد ترامب، سيؤدّي إلى تعديلات في المُقارَبة السياسية والانتخابية لدى فريقي الحزبين، لا سيما أن المرشّح عن الحزب الديمقراطي جو بايدن اختار الصفوف الخلفيّة في المرحلة الراهنة، مدركاً أنّ دخول أوباما في السِجال السياسي مع ترامب يمنحه فرصة التعويض عن فتور حملته، في ظلّ الشعبية الوازنة للرئيس السابق في أوساط القاعدة الحزبية الديمقراطية.
عند إضافة تدهور الحالة الاقتصادية إلى المُعادلة الانتخابية، لا يستطيع الرئيس ترامب تنفّس الصعداء، لكونه راهَن كثيراً على تمايُز الأوضاع الاقتصادية لصالحه وصالح حزبه.
وجاءت أحدث استطلاعات الرأي، التي أجرتها جامعة “هارفارد،” نُشرت نتائجها في 18 أيار/ مايو الحالي، مُخيّبة لآمال السياسيين، إذ أعرب نحو 65% من الجمهور عن قلقه من الأوضاع والسياسات الاقتصادية، مقابل 27% من المؤيّدين. النسبة الأخيرة تُشير بوضوح إلى جمهور مؤيّدي الرئيس ترامب، الذين تراوحت نِسَبهم بين 27 و 33% من مجموع الناخبين، واكتساب بعض النِسَب الضئيلة أحياناً على خلفية آلة التحريض الهائلة ضدّ الحزب الديمقراطي ومرشّحيه، لا سيما خلال الانتخابات التمهيدية وانسحاب المرشّح بيرني ساندرز لصالح جو بايدن.
كذلك عند الأخذ بعين الاعتبار الآثار المترتّبة على فشل الأداء الحكومي لمُكافحة وباء كورونا، واستمرار تصاعُد حالات الوفيات جنباً إلى جنب مع الارتفاع في عدد الإصابات، يجد المرء نتائج مُغايرة للواقع والحقائق العلمية معاً.
سياسات الإدارة الأميركية بتسليط سيوف الاتهام على الصين، والزّعْم بمسؤوليّتها عن تفشي الوباء، وما تكبّده الاقتصاد الأميركي نتيجة ذلك، أعطت أكلها في تزايُد تأييد القاعدة الشعبية للرئيس ترامب، كما جاء في استطلاع رأي مُشترك لكلّ من شبكة “سي أن أن” ومجلة “نيوزويك” الأسبوعية، إذ أفاد الاستطلاع بتقدّم الرئيس ترامب بنسبة 7% على مُنافسه جو بايدن في مجموعة الولايات الحاسمة، بينما تفوّق الأخير في ولاية كاليفورنيا “الليبرالية”، كما كان مُتوقعاً.
يُشار أيضاً إلى أهميّة عامل المؤتمرات الصحافية اليومية التي “كان” الرئيس ترامب يعقدها في البيت الأبيض للحديث عن مراحل مُكافحة الفايروس، لكنه دأب على اتهام إدارة أوباما بالتقصير وتحمّل مسؤولية فُقدان المعدّات الطبية وغيابها، ومُهاجمة الصين ومُطالبتها بتعويض الخزينة الأميركية عن خسائرها نتيجة ذلك، مما حفّز قواعده الانتخابية وجمهور “الحرب الباردة” للتغاضي عن مسؤولية الحكومة الأميركية وتحميل الصين كامل اللوم.
الحال الذهنية للمرشّح الديمقراطي جو بايدن تُقلق مؤيّديه وتُسعد خصومه، وسبق “لمركز الدراسات العربية والأميركية” أن تناول التدهور الملحوظ في صوابية تصرّفاته الشخصية وتصريحاته السياسية، مما يُضاعِف المُراهنة على اختياره لنائب رئيس باستطاعته/ ملء الفراغ بسرعةٍ قياسية، وأيضاً نَيْل ثقة جمهور الناخبين وحماستهم.
أشارت بعض الأوساط في الحزب الديمقراطي، قبل مدة وجيزة، إلى ضرورة تحرّك قادة الحزب لتفادي العثرات المقبلة للمُرشّح بايدن، بالبحث عن بديلٍ قبل مؤتمر الحزب الذي تمّ تأجيله، من مُنتصف شهر تموز/ يوليو إلى مُنتصف آب/ أغسطس المقبل، رغم ما قد ينجم عنه من مشاعر عدم اليقين لدى كبار مُموّلي الحزب وقادته التاريخيين.
يتعزّز هذا الاقتراح مع تصاعُد صدقيّة الاتهامات الموجهة إلى جو بايدن بالتحّرش الجنسي بواحدةٍ من عدّة نساء، واتهامه باعتداء جنسي على أخرى كانت ضمن فريق عمل مكتبه مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وثمّة عامِل مُساعِد قد يخدم الاقتراح غير المسبوق أعلاه، وهو أنّ عدداً من الولايات لم تعقد انتخاباتها التمهيدية، وأخرى أجّلتها، مما يطرح مسألة تتعلق بوجهة مندوبي الحزب وتأييد الفريق الواسع الذي لم يُعلن عن توجّهاته من تلك الولايات قَيْد المراجعة، وتسهيل سيناريو البديل في اللحظات الأخيرة قبل انعقاد المؤتمر.
ذاك السيناريو يُعطي حكام الولايات عن الحزب الديمقراطي صلاحيات واسعة في “اختيار” المندوبين أو تسميتهم، وفق آليات وضوابط تتحكّم بها الولاية وممثليها في الكونغرس بشكلٍ كبير.
في حقيقة الأمر، ليس هناك ما يُلزم قانونياً المندوب الذي وقع عليه/ها الاختيار للتصويت لصالح مُرشّح محدّد، مما سيُعزّز خروج المؤتمر بصيغة ترضية يمارس فيها كبار قادته والرئيسان أوباما وكلينتون وحكّام الولايات دوراً مركزياً لتوجيه الأصوات نحو مرشّح يحظى برضاهم أولاً، على حساب المزاج الشعبي داخل أروقة المؤتمر.
في حال رسا الاختيار على “صيغة الترضية”، من الُمرجّح أن يحظى مؤيّدو السيناتور بيرني ساندرز بدورٍ أشدّ تأثيراً عما قبل، يُعيد لهم ولمُرشّحهم الاعتبار مرة ثالثة، على الأقلّ في عملية اختيار البديل، وهو ما سترفضه قيادات الحزب والرؤساء السابقون بقوّة.
ثمة استنتاج تلقائي بأنّ الأزمة الاقتصادية كفيلة بالإطاحة بالرئيس ترامب. ورغم ما ينطوي عليه من صحّة، فإنّ التاريخ السياسي الأميركي لا يدعم ذلك، فقد فاز الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت بدورةٍ ثانيةٍ خلال أزمة الركود العالمي، مدعوماً من مفاصل القطاعات الاقتصادية، ولا سيما التصنيعية منها.
في الشق الآخر من المُعادَلة، يُطالب قادة الحزب الجمهوري، بتأييد كُبريات الشركات والمؤسّسات الاقتصادية، بتسريع الخُطى لعودة عَجَلة الإنتاج واستئناف العمال لمهامهم، مقابل رفض شكلي لقادة الحزب الديمقراطي المُطالبين بأولوية التصدّي لوباء كورونا قبل إعادة آليات الإنتاج، وهم الذين رضخوا لضغوط خصومهم الجمهوريون في إعادة استئناف جلسات مجلسي الكونغرس، وإنْ بوتيرة أخفّ عما قبل.
أنصار الرئيس ترامب، لا سيما في ولاية مشيغان، التي تحكمها مُرشّحة مُحتَمَلة لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الديمقراطي، وتحتوي على مفاصل أساسية من صناعة السيارات، يلوّحون بمُلاحقتها قضائياً لانتهاك “حقوقهم الدستورية” بعدم استجابتها لمطالبهم بالعودة التامة إلى الأوضاع الطبيعية والتخلّي عن القيود المفروضة راهناً.
يعتقد بعض المُراقبين أنّ إحدى أبرز خلفيّات تحرّك المُعارضين ضدّ حاكِمة الولاية، غريتشين ويتمر، تمّت بإيعاز من أوساط مؤيّدة لترامب، للإطاحة بحظوظها في أن تُختار لمنصب نائب الرئيس، لأنّ اختيارها سيعني حُكماً خسارة ترامب لولاية ميشيغان التي فاز فيها في الانتخابات الرئاسية بأصواتٍ قليلة، ولكنها كانت من مُفاجآت الانتخابات البارزة، لكون الولاية محسوبة تقليدياً على الحزب الديمقراطي.
تزخر البيانات اليومية بنماذج فردية لأرباب عمل يتحدّون القيود المفروضة في ولايات مُتعدّدة لمُزاولة أعمالهم، على الرغم من المُخالفات المالية المُرتفعة المفروضة عليهم من قِبَل السلطات المحلية.
أحدهم ذهب به التحدي إلى الاستنجاد بميليشيا مُسلّحة في ولاية ميشيغان توفّر الحماية الفعلية لمؤسّسته من المُلاحقة الرسمية، وتُطمئِن الزبائن بمُمارسة أعمالهم اليومية.، مما اضطر سلطات الأمن المحلية إلى التراجُع والتعهّد بعدم إلقاء القبض على صاحب المؤسّسة، كما يستوجب القانون الساري، بل انضمّ القضاء في الولاية إلى جانب صاحب العمل، مُتحدّياً صلاحيات حاكِمة الولاية بعدم شرعيّة إجراءاتها.
في ظلّ تلك اللوحة من العوامل والمحطّات والتوجّهات المُتناقِضة في المشهد السياسي، لكلّ من الفريقين، ليس مُستبعداً فوز الرئيس ترامب بولاية ثانية. تُسعفه في ذلك بيانات مُشجّعة عن قرب التوصّل إلى إنتاج لقاح مُضاد لفايروس كورونا، أعلنت عنه شركة “موديرنا” بولاية ماساتشوستس.
إمكانية أن ينجح الحزب الديمقراطي في الوصول الى مُفاجأة، باختيار مُرشّح رئاسة (بديل عن بايدن) ونائب له، يوفّران زخماً وجاذبيّة تُدخِل الحماس والثقة بتحريك ما هو أبعد من الناخبين الديمقراطيين وضمان تأييد قطاعات المُستقلّين والمُتردّدين.