ضرورة الانتقال من الرّيع إلى الإنتاج
عفيف قاووق*
المعضلة الحقيقية التي تكشّفت نتيجة الأزمة الحياتية الحالية هي أننا كُنّا نعيش من حيث ندري أو لا ندري، في ظلّ مجتمع استهلاكي ترفيهي دون ان نُحسِن برمجة واستثمار مداخيلنا المادية بحيث نحافظ على نوع من التوازن والاستقرار المادي والنفسي في آن.
ما حصل هو أننا انجذبنا إلى عالم الاستهلاك وغرقنا فيه، وأصبحنا نستهلك أفخر وأحدث الموديلات من الملبوسات، السيارات، الهواتف المحمولة وغيرها من السلع الاستهلاكية المستوردة بحيث لم يعد مكان للقديم بين مقتنياتنا.
كُنّا نلهث وراء قطار الاستهلاك حتى انقطاع النفس من فرط محاولة اللحاق به بعد أن بدّدنا كلّ مواردنا المالية وبعبارة أصحّ، بعد أن أسأنا استعمال مواردنا المالية المتاحة ووقعنا ضحية الإعلانات المفخّخة التي تدعونا لمزيد من الاستهلاك وتحاصرنا برزمة من عروضات القروض (القرض الشخصي، القرض التعليمي، قروض الزواج، قروض السيارات، قروض التجميل، قروض السياحة والسفر…) بحيث ترافقنا هذه القروض وترهقنا على مدى سنوات ويبقى القرض الأكثر ملازمة لسنوات عمرنا هو القرض السكني الذي يعيش ويكبر مع أفراد العائلة، وأكثر من ذلك في أغلب الأحيان ينتقل إلى الوَرَثة بعد ان يسلّمنا الموت إلى الحفرة الترابيّة التي لا بدّ منها.
إنّ غالبية الشعب اللبناني وتحديداً أولئك الذين ينتمون إلى ما يُسمّى الطبقة الوسطى وقعوا عن قصد أو عن غير قصد، ضحية لإغراءات المصارف التى حاصرتهم كما قلنا برزمة قروض استهلاكية غير منتجة في معظمها، مقابل ضمانة توطين رواتبهم ومثل هذه الضمانة اعتبرتها المصارف ضمانة ممتازة ومؤكدة، وبالتالي فإنها اتجهت الى هكذا نوع من التوظيفات المالية ونأت بنفسها عن الغوص بشكل فاعل ومؤثر في تسهيلات مصرفية للمؤسسات المتوسطة والصغيرة ولأصحاب الحرف والمهن الحرة مما انعكس ركوداً، أو على الأقلّ ساهم في ركود الاقتصاد الوطني وإبطاء عجلته الإنتاجية.
ولما كان الرهان على استقرار سعر صرف الليرة والذي على أساسه كانت هذه الالتزامات بتلك القروض، ومع تفلت سعر الصرف تكشفت الأزمة ووقع الجميع في المحظور. وأصبح مصير هذه الطبقة الوسطى في مهبّ الريح وتضخمت طبقة الفقراء أو من هم دون خط الفقر.
فهل تكون هذه الأزمة – وطبعاً بعد خروجنا من تداعيات جائحة كورونا – والتي نأمل أن لا تطول– فرصة لنا للتصالح مع أنفسنا والتخلي عن الانقياد القاتل وراء التقليد الأعمى لأنماط العيش في المجتمعات الأخرى والتوقف عن لحس المبرد، وهذه ليست دعوة للتقشف وشظف العيش، بقدر ما هي دعوة إلى التعامل مع قدراتنا المالية بكلّ صدق وشفافية والتخلي عن البهرجة والمظاهر الزائفة. علينا أن نعيد ترتيب أولويّاتنا بانتظار أن تنتقل البلاد ضمن رؤية واضحة من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتِج، كما وعدتنا هذه الحكومة، ولا زلنا ننتظر، بعد أن أثبت الاقتصاد الريعي عقمه لأنه جعل من لبنان دولة تقوم باستيراد معظم السلع الاستهلاكية والغذائية – بما فيها سلعة الثوم على سبيل المثال – ولم تستطع سياسات الترقيع المعتمدة منذ عقود النهوض بالاقتصاد الوطني من كبوته لافتقارها إلى خطة اقتصادية واضحة تعيد الزخم الى مختلف قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي وغيرها من القطاعات. والتي من شأن هذه الخطة إنْ وجدت، أن تنعكس إيجاباً على الميزان التجاري الذي يعاني من عجز مستدام منذ سنين. وللوصول إلى هذا الهدف لا بدّ للدولة من اتخاذ إجراءات حماية ودعم عن طريق إعادة النظر في التشريعات الجمركية والرسوم على السلع والمنتجات المستوردة والتي يمكن إنتاج مثيلاتها في السوق المحلي، إذا خلصت النوايا واستقامت السياسات الاقتصادية الداعمة للسلع التي يمكن إنتاجها محلياً. ومكافحة التهريب وإقفال المعابر الغير شرعية، دون أن نغفل ضرورة دعم وتعزيز القطاعات الزراعية والصناعية التي ستوفّر لنا بلا شكّ سِلعاً بديلة عن تلك التي أرهقنا ميزانيتنا في استيرادها من الخارج وبأكلاف عالية، وأن يترافق ذلك مع تشريعات تحمي الصناعات الوطنية وباقي القطاعات الإنتاجية المحلية. لأنّ تنشيط الزراعة والصناعة والحِرَف وعمليات التبادل الداخلي بالإضافة الى السياحة والخدمات، لا يؤدّي فقط الى حلّ الأزمة الإقتصادية والمالية، بل هو السبيل الحقيقي لصَهر اللبنانيين في بوتقة وطنية واحدة وحثهم على الإنحياز للإنتاج الوطني لأنّ هذا الإنحياز من شأنه أن يخفّف من الإستيراد، مع طموحنا لزيادة الصادرات من هذا الإنتاج المحلي.
تبقى نقطة أخيرة مطالبة بها الدولة وهي العمل على تعزيز ودعم مؤسّسات الرعاية الاجتماعية ومؤسّسات التعليم الرسمي والقطاع الصحي والإستشفائي التي تستنزف طاقات الفرد المالية، والإفراج قبل كلّ شيء عن إقرار قانون ضمان الشيخوخة، لكي ينعم المواطن بشيء من الأمن والأمان على ما تبقى له من سنين عمره. فهل سيتحقق لنا ذلك أم اننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة؟
*ناشط اجتماعي ومؤسّس لقاء المنارة الثقافي