هولندا ـ ألمانيا: الاختلاف بين الأداء والانجاز (1)
ما بين ألمانيا وجارتها هولندا حرب كروية لن تخمد نيرانها منذ عقود، وغالباً ما تشهد ساحات «المونديالات» المتنقّلة بين القارات عمليات إبراز نقاط القوّة والتألق بين الجارين، وخصوصاً على الصعيد الفني والبدني وأحياناً الاستعراضي … عن الاداء والانجازات واختلاف الرؤى وكيفية التعاطي مع اللعبة الشعبية الأولى في العالم، كتب الناقد الكروي ميشال نصرالله، وخصّنا بهذه المقاربة المستندة إلى الخبرة والحيادية، وسنعرضها على حلقتين.
ميشال فريد نصرالله
تراجعت حدّة المنافسة بين هولندا وألمانيا مع مرور الزمن. فبعد أنا ألقت الكراهية بظلالها على ملاعب كرة القدم، ما بعد الحرب، خاصة من الجانب الهولندي في أوائل السبعينيات، خفت تأثيرها بشكل كبير بعد العام 1990، لتغيب مشهدية رونالد كومان وهو يمسح القميص الألماني بمؤخرته، وفرانك ريكارد يبصق على فولر، إلى أن ساد الاحترام المتبادل بين كرويف وبكنباور وبين المدربين واللاعبين الهولنديين في الدوري الألماني. ففي القرن الحادي والعشرين زاد سعي الدول للكمال الكروي، ولتحقيق ذلك يُمكنها أن تتعلم جوانب معينة من اللعبة وخصوصاص ممن يجيدها أفضل منها، ويصبح الأمر أسهل عندما يكون الأفضل هو «الجار القريب».
ما بين ألمانيا وهولندا
لم يتعمق خبراء كرة القدم في الاختلافات الجذرية بين الكرتين الألمانية والهولندية لجهة المهارات الفردية والعقلية وصولاً إلى روح الفريق. والثابت من خلال المعطيات أن الألمان يفكرون بالفوز فقط، وهو يأتي في المرتبة الأولى، أما كيفية تحقيقه فلا تتسم بالأهمية ذاتها، بينما الحال مختلف تماماً في هولندا، حيث من الممكن إقالة المدربين، ولو فازوا، وقصة مدرب أياكس توميسلاف ايفيتش خير شاهد على ذلك. وقد حصل الأخير على لقب «أنجح مدرب في التاريخ» في ضوء احد الاستفتاءات، كما فاز باللقب مع أياكس لكنه اضطر إلى ترك منصبه لأن المشجعين ومسؤولي النادي لم يكونوا سعداء بكيفية تحقيق اللقب.
وأدت هذه الاختلافات في مقاربة كرة القدم لكلا البلدين إلى المزيد من الألقاب القارية والدولية لألمانيا، والمزيد من اللاعبين المهاريين والمميزين لهولندا.
اختلاف الرؤية والهدف!
يبدأ كل شيء مع طريقة استكشاف مواهب الأطفال في عمر 6 سنوات. ففي هولندا يعتبر التحكّم بالكرة والحدس الكروي والتقنية والمهارات العوامل الوحيدة لاختيار المواهب، ويعتبر الهولنديون، بأن النضج الجسدي وقدرة التحمّل تعد مقاييس أقل أهمية في هذه الفئات العمرية. فينعكس هذا التدبير على آلية إختيار من سيبقى ومن سيرحل مع نهاية كل موسم في للفئات العمرية، فلا يتم الاعتماد على ترتيب اللاعبين من أعلى إلى أسفل، ليبقى اللاعبون ذوو المواهب المميزة بغض النظر عن ترتيبهم، فالموهبة هي الأساس ولا يمكن الاستغناء عنها، وكل ما تبقى من قوة جسدية وقدرة تحمل هي أمور يمكن تطويرها لاحقاً. ففي هولندا، تفرض طريقة اختيار المواهب مقاربة مختلفة للأهداف المطلوبة، فلا يُطلب من مدربي الفئات العمرية الفوز بالبطولات. فالوظيفة الأساسية لهؤلاء تهدف إلى تطوير المواهب بعد اكتشافها والإبقاء على تميّز اللاعب البالغ من العمر 10 سنوات لحين بلوغه 16 سنة بغية ضمان إنتقاله إلى الفريق الأول. لذلك فإن عمل المدربين في هذه الفئات يتركز على النهج التعليمي وتطوير المواهب ويختلف عن المدربين المحترفين المُطالبين بنتيجة نهائية.
أما في ألمانيا، فلا تختلف مقاربة مدربي الفئات العمرية عن مدربي الأندية المحترفة الكبرى، فالهدف واحد، وهو إحراز الألقاب. ويعلّق المدرب الهولندي المعروف في ألمانيا هوب ستيفنز: «من الجيد الفوز بالمباريات، لكن لا يجب أن يعتمد هذا المعيار للحكم على المدرب. الخسارة هي جزء من طريق التعلّم، وهي أكثر أهمية من الفوز.. دع الأطفال يراوغون ويمررون ويرتكبون الأخطاء وإذا خسروا البطولة بفارق نقطة واحدة، فلا يهم. لأن المستقبل هو الأهم «.
فلسفة الكرة الهولندية
انبثق عن الثقافة الهولندية الكروية فلسفات صغيرة وجديدة من ضمن فلسفة الاستحواذ والهجوم الكروية. وتعد تقنية «كورفر» التدريبية التي ابتكرها المدرب ويل كورفر ولُقب بأينشتاين كرة القدم هي إحدى الأمثلة المهمة عن هذه الفلسفات، وتقوم هذه التقنية على أسس عديدة، أبرزها التكرار غير المحدود لحركات القدمين مع الكرة، وإتقان المهارات والتحركات مصحوبة بخدع معينة، وكل ذلك من أجل تطوير «الاحساس» بالكرة وإنتاج لاعبين مهاريين ومبدعين يتمتعون بثقة عالية وفكر هجومي. وفي تعليقه على تقنية كورفر، يقول الألماني يورغن كلينسمان: «كنت أتمنى لو أن برنامج تدريب كورفر كان متاحاً عندما كنت صغيراً، لكان جعلني حتماً لاعباً أفضل». ومن ناحية أخرى، ففي ألمانيا ما زالوا يركزون على الجري في الغابة والتفوّق على المنافسين جسدياً وحتى أنهم يقومون باختبارات فحص مستوى حمض اللاكتيك لفرق ما دون 15 عاماً، إضافة إلى الوقت الطويل الذي يُبذل في سياق تطوير روحية الفريق وعقلية الفوز.
تأقلم الهولنديين مع قناعاتهم
لم يؤثر الغياب عن بطولات كأس العالم وانحدار مستوى أندية الدوري الهولندي أوروبياً على عقلية الهولنديين الكروية، ولا يبدون استعدادهم لتغيير أي شيء في أسلوبهم. مع قناعتهم بأن الحاجة إلى تغيير جانب معين من رؤيتهم وتعاطيهم ماللعبة، سيؤدي ذلك إلى تغيير جذري في النهج المعتمد بأكمله، ما يعني فعلياً، استقطاب لاعبين بنوعية مختلفة من عمر 6 سنوات.