قوة خفيّة وسلاح أميركيّ مُدمّر!
} سماهر الخطيب
سجُّل للولايات المتحدة الأميركيّة تفوّقها في اتباع سياسة التجويع عبر اعتمادها على مبدأ الحصار الاقتصادي وصولاً إلى ضغط الشعوب وإثارتها ضدّ حكامها وأنظمتها، وليس من مثال أدلّ على تلك السياسة أفضل من حقبة الحرب الباردة وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1989؛ فلم تكن المواجهة إيديولوجية فحسب بل كانت في باطنها مواجهة اقتصادية ومالية حينما كانت الدول الاشتراكية تعاني من الأزمات الاقتصادية والمعيشية، في المقابل يجدون نظيرتهم الرأسمالية تنعم بالرخاء والازدهار. وهذا ما كان عليه لبّ السياسة الأميركيّة، فمن جهة اتبعت مبدأ مارشال وهو المشروع الاقتصاديّ لإعادة إعمار أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومن جهة للضغط على الدول الاشتراكية في ما بعد أو التي اختارت الرُكب الاشتراكي، عبر تطبيقها لسياسة الاحتواء وتقديم الدعم المالي والاقتصادي لكلّ مَن يخرج عن هذا الركب حتى وصل الأمر إلى انهيار جدار برلين وتوحيد الألمانيتين..
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم يتضح جلياً أن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة تأتي ضمن نسق بديل عن الحرب، وبديل عن الخيار العسكري، كأحد أساليب القوة الناعمة وهي غالباً مجدية وذات آثار مدمّرة تفوق في تأثيراتها الحرب العسكرية التقليدية.
كما تمارس الولايات المتحدة حملة «أقصى ضغط» على الخصم لإجباره على الجلوس إلى الطاولة والتفاوض على اتفاق أشمل.
ويُعتبر دونالد ترامب أكثر الرؤساء الأميركيّين استخداماً لسياسة الحصار والعقوبات ضدّ الدول، لكنه يسير في سياسته تلك على خُطى أسلافه في البيت الأبيض، الذين خطّ لهم هذا النهج «وودرو ويلسون»، وهو الرئيس الـ28 للولايات المتحدة، وتولى الحكم من عام 1913 إلى 1921.
واشتهر الرئيس ويلسون بقوله: إن «الأمة التي نقاطعها هي أمة على وشك الاستسلام»، وتأكيده بالقول: «طَبِق هذا العلاج الاقتصادي والسلمي الصامت والمميت، ولن تكون هناك حاجة لاستخدام القوة، إنه علاج رهيب لا يكلف حياة خارج الدولة التي تقاطعها، لكنه يفرض ضغوطاً عليها، وفي رأيي أنه لا توجد دولة حديثة يمكن أن تقاوم».
ومن أقرب الأمثلة على تأثير الحصار الذي يفوق تدميره ما تفعله الحروب هو ما حصل في العراق، حين فرضت عليه الأمم المتحدة وأميركا وحلفاؤها عقوبات اقتصادية؛ بعد غزوه الكويت في العام 1990، وألحقت تلك العقوبات أضراراً اقتصاديّة وإنسانيّة وصحيّة وتعليميّة بالغة بالعراقيّين، ووصفت تأثيراتها بـ»الكارثية» في المجالات الإنسانيّة، حيث أدّت إلى وفاة أكثر من مليون ونصف من العراقيين، من بينهم نحو نصف مليون طفل، وحرمت العراقيين لأزيَد من عقد من الزمن من الحصول على حاجاتهم من الغذاء والدواء.
إلا أنّ قوة الولايات المتحدة التي تنامت منذ الحرب العالمية الثانية، مع تنامي نفوذها التجاري والمالي والعسكري مكّنتها من السيطرة على مفاصل الدول الاقتصاديّة والمالية والتلاعب بالقانون الدولي وفق أهوائها فباتت تستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية على دول أخرى تختلف معها في المصالح، سواء من جانب واحد أو عبر التحشيد الدولي لإقراره من خلال المنظمات الدولية لا سيّما الأمم المتحدة «متذرّعة» بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وبالتالي حرمان الدولة المستهدفة بالعقوبات من قروض التوريد والتصدير البنكية، والحظر التجاري، وحظر التحويلات المالية، والحرمان من الحصول على قروض من المؤسسات المالية الأميركيّة، وكذلك الحرمان من الاستثمار في الأصول الأميركيّة.
وقد أنشأت الولايات المتحدة خصوصاً لهذا الغرض أي «العقوبات» قانوناً خاصاً في آذار 1969، أسمته قانون «هيلمز – بيرتون».
ولكون العقوبات الأحادية التي تفرضها من جانب واحد على دولة معينة أقل فاعلية من العقوبات الاقتصادية المتعددة الأطراف فتلجأ إلى فرض عقوبات من جانب واحد على دولة أو شركة تتعامل مع الدولة المعاقَبة اقتصادياً؛ أو العكس، فتتحوّل العقوبات بهذه الطريقة من محض أميركيّة إلى دولية، كقانون «قيصر» الذي سيدخل حيز التنفيذ والذي تفرض بموجبه عقوباتها على الدولة السورية وكل دولة أو شركة تتعامل معها وتجويع الشعب السوريّ على غرار سابقه العراقي.
وبالتالي أخذ صفة «العقوبات الأمميّة» التي تفرض بموجب المادة 41 والتي تنصّ الوسائل الزجرية التي يفرضها والتي لا تصل إلى القوة العسكرية ومن بينها بحسب المادة وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً، بالإضافة إلى قطع العلاقات الدبلوماسيّة أو تجميدها وصولاً لمنع الدول من التعامل مع الدولة «المعاقبة»..
كما يؤكد مختصّون أن القوة الأميركيّة التي منحتها الإمكانيّة في فرض قراراتها والضغط اقتصادياً على الدول، وانتهاج سياسة العقوبات، للدفاع عن مصالحها واستمرارها لم تكن وليدة الصدفة، بل هي نتاج السعي لامتلاك القوة في جميع المفاصل الأساسية للاقتصاد العالمي.
فضلاً عن ذلك فإن لهيمنة الدولار الأميركيّ على الاقتصاد العالمي دوراً مساعداً في تحقيق الولايات المتحدة أهدافها بهذا الخصوص.
كما تتحكم الولايات المتحدة في التجارة العالمية من خلال هيمنة الدولار الأميركيّ الذي يسيطر على قرابة 85% من المعاملات التجارية حول العالم.
ويهيمن الدولار كذلك على معظم المعاملات المالية حول العالم، خاصة في الدول الناشئة، ومن ضمنها الشرق الأوسط وروسيا والصين، بنسبة 92% من معاملاتها.
وهناك جانب آخر يعتبر أحد أذرع القوة الأميركيّة؛ ويتمثل بسيطرتها على قرارات معظم المنظمات الدولية، ومنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وتلك السيطرة تعطيها القدرة على التدخل في السياسات الاقتصادية لتلك الدول بما يخدم مصالحها..
ونظراً لأهمية الاحتياطات المالية لأيّ دولة من دول العالم فإن اتخاذ العديد من الدول الدولار الأميركيّ كعملة نقدية معتمدة لاحتياطاتها المالية جعل من هذه الاحتياطات بالعملة الأميركيّة قوة مضافة إلى الولايات المتحدة، حيث إنّ أكثر من 60% من الاحتياطات المالية العالمية مقوّمة بالدولار.
بالإضافة إلى السلطة السياسية التي تملكها الولايات المتحدة على معظم دول العالم، ما يجعل من قرار فرض عقوبات على أيّ دولة قراراً سهلاً نسبياً؛ لأن معظم الدول ستلتزم بقرارات الولايات المتحدة.
وبالتالي العقوبات وسيلة حاسمة تُمكّن الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها وسيطرتها على قرار الدول بأقل مجهود وأقل خسائر.
أما عن سرّ قوة الدولار الأميركيّ، بالرغم من أنّ الوضع الخاص للدولار بات مهدّداً مرات عدّة منذ أن أطلقت أوروبا اليورو كعملة موحّدة.. فما هو سرّ هذه القوة التي يتمتع بها والتي تستثني الولايات المتحدة الأميركيّة من قوانين الاقتصاد بالإضافة إلى سيطرتها على ثلاث مؤسسات مالية رئيسية: البنك الدولي WB، صندوق النقد الدولي IMF، ومنظمات التجارة العالمية WTO، من خلال وسائل متنوّعة..
وبالتالي تسيطر الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، فيما تنصح المؤسسات السالفة الذكر الدول الأخرى بـ»التعقل» حتى لا يكون لديها عجز في ميزان المدفوعات أو في التمويل الحكومي.
في المقابل نرى أميركا نفسها لديها عجوزات هائلة في ميزان المدفوعات والتمويل الحكومي، وذلك من وقت لآخر، وما من أحد في صندوق النقد الدولي يطلب منها «التعقل» أو ضبط النفس!
كما أنّ العملات جميعها تشهد انخفاضاً كبيراً إلا أنّ قيمة الدولار الأميركيّ لم تشهد ذلك الانخفاض الكبير، ولا توجد إشارة حتى على إفلاس وشيك لاقتصاد الولايات المتحدة بالرّغم مما تعانيه في الآونة الأخيرة من أزمة اقتصادية وفقدان أكثر من 40 مليون أميركيّ لوظائفهم فضلاً عن التفاوت في الدخل وانخفاض سعر الخام الأميركيّ إلى ما دون الدولار وغيرها من الأزمات التي ولدتها جائحة كورونا..
وإذا ما أردنا تفسير سبب قوة الدولار في الواقع فسنجده العملة الاحتياطيّة العالميّة ويصل إلى ما يقرب من ثلثي كافة احتياطيات التبادل الرسمي، وأكثر من أربعة أخماس كافة التعاملات التبادلية الأجنبية..
علاوة على ذلك، فإنّ كافة قروض صندوق النقد الدولي معينة بالدولار.
وبالتالي فإنّ قوة الدولار لا تسوّغها القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، لأنّ ما تستطيع الولايات المتحدة تصديره يمكن الحصول عليه من مصادر بديلة.
وتقريباً لا تتكلّف الولايات المتحدة شيئاً في إنتاج الدولارات، فإنّ العالم يستعمل العملة بهذه الطريقة يعني أنّ الولايات المتحدة تستورد كميات ضخمة من السلع والخدمات من دون مقابل في واقع الأمر.
إذ إنه بمقدار ما يتداول الدولار خارج أراضيها، أو يستثمر من قبل مالكين أجانب في أصول تجارية أميركيّة بمقدار ما يتوجب على بقية العالم أن يزوّدها بالبضائع والخدمات مقابل هذه الدولارات.
وبالرغم من أنّ الوظيفة التي يلعبها الدولار كـ»ملاذ آمن» لا زالت فعّالة، إلا أنّ مسؤولين متخصّصين في مراقبة أداء العملات في الصين وألمانيا والبرازيل قالوا بأنّ «سياسات الاحتياط الفيدرالي هي السبب في إضعاف قيمة الدولار».
إلا أن الخطوات السابقة التي اتخذها الاحتياط الفيدرالي من أجل إغراق العالم بالدولارات لم تؤثر كثيراً على قيمة العملة، بل زادت جاذبيّة الأصول الأميركيّة في وقت تحتاج فيه الحكومة إلى أقصى دعم ممكن من جانب المستثمرين الأجانب.
وفي الواقع إنّ الأزمة الاقتصاديّة التي اندلعت عام 2008 بسبب الرهن العقاري ما زالت ممتدّة بآثارها إلى اليوم، ليعود ناقوس الخطر ليدق من جديد، (قبل ظهور الجائحة)، محذّراً من أزمة اقتصادية كبيرة ستعصف بالاقتصاد العالمي، وستكون أشدّ فتكاً من سابقتها المالية التي حدثت في 2008، وستنتج عنها ولادة نظام عالمي جديد مختلف تماماً عن الواقع الحالي.
فما تشهده الدول الغربية والعربية وكذلك الأميركيّة باعتبار أنّهم جميعاً جزء من الكل في المنظومة العالمية «المعولمة» وما شهدته تلك المنظومة من تفاقم في الأوضاع المعيشيّة وارتفاع مستوى البطالة الحقيقيّ وليس فقط البطالة المقنعة وما رافق تلك الأوضاع من نقمة الشعوب باتجاه سلطاتها السياسيّة ليس وليد ليلة وضحاها إنما هو امتداد لأزمة 2008.
ومع اندلاع الأزمة الصحية الحالية المتمثلة بجائحة كوفيد-19، وما خلّفته من آثار مدمّرة على الاقتصاد العالمي وتحذيرات من انهيارات اقتصادية ومالية لبعض الدول، بات العالم اليوم على شفير بركان قد ينفجر في أيّ لحظة والسبب الأول يعود إلى «العولمة» وربط الهندسات المالية والسياسات العامة المحلية بتلك الأميركيّة التي أصلاً تعاني ما تعانيه من أزمات وعثرات باتت واضحة المعالم انفجرت مع أول حادثة «عنصرية» ضدّ «السود» لتبدأ معها أحجار الدومينو الأميركيّة تتساقط في معظم المدن والولايات الأميركيّة فالحكاية ليست «رمانة بل قلوب مليانة»..
ولتصبح معها بوادر الأزمة الاقتصادية واضحة، ومن أهمّ هذه البوادر «إفلاس» العالم، فحجم الدين العالمي بلغ العام المنصرم أي قبل ظهور الجائحة «كوفيد-19»، ثلاثة أضعاف الناتج القومي الإجمالي العالمي، حيث إنّ الناتج القومي الإجمالي العالمي 85 تريليون دولار، إذا جمعنا كافة مداخيل العالم مجتمعة، بمعنى أنّ العالم مَدين بنسبة 300 من قيمة الناتج القومي الإجمالي، وهذا إفلاس حقيقيّ..
كما أنّ أوروبا مرّت منذ أعوام قليلة مضت، بانكماش اقتصاديّ، ما دفعها إلى وضع حدّ على ألا يزيد الدين العام على 60 من الناتج القومي، ناهيك عن أنّ الولايات المتحدة تمرّ حالياً بمرحلة انكماش اقتصاديّ، فلديها عجز سنوي يُقدّر بنحو تريليون دولار، ويبدو أنّ اختيار رئيس أميركيّ من خارج عالم السياسة والمجيء به من عالم اقتصاديّ بحت كي لا تسمح الإدارة الأميركيّة بحصول الانهيار الاقتصادي المتوقع.. ما يُنذر بإعطائه فرصة أخرى للنهوض بالاقتصاد الأميركيّ خاصة أنه في الفترة الأولى من ولايته قد فتح أبواب التوظيف على مصراعيها ناهيك أن شعاره «أميركا أولاً» يدغدغ الشعور الأميركيّ «النرجسي»..
وسبق أن أفادت مراكز الدراسات الأميركيّة بأنّ «ترامب سيصطنع حرباً مع الصين، يكون الهدف منها الجلوس مع الصين على طاولة مفاوضات، والتفاهم على نظام عالمي جديد بين الطرفين». وهذا أمر ترفضه الصين حتى الآن..
وقد اصطنع الحرب التجارية معها فعلاً، واستثمر ظهور الفيروس القاتل في توجيه الاتهامات ضدّها ولا تزال بكين ترفض كل ما يوجه إليها من اتهامات حتى وصل ترامب بحدود تصعيده إلى إلغاء الامتيازات عن «هونغ كونغ» بعدما أقرّ المجلس القومي الصيني ذاك القرار الذي اعتبرته أميركا وحلفاؤها «تجاوزاً» فيما هو في الأصل قرار سيادي لدولة ذات سيادة..
إذاً العالم يتجه اليوم إلى أزمة اقتصادية عالمية خطيرة جداً، لم يحصل مثلها في هذا القرن، وهي مختلفة تماماً عن الأزمة المالية في 2008، حيث كانت أزمة سوق مال بحتة، ولم تكن أزمة اقتصادية إطلاقاً، وسوق المال هو السوق الموازي للسوق الاقتصادي، ولا علاقة له ولا أثر له على الناتج القومي، فمن يربح ويخسر هم المتضاربون في الأسهم وفي الأوراق المالية، أما هذه الأزمة فستصل إلى مرحلة تضمّ الكساد وغلاء الأسعار بدأت بوادرها في النصف الأول من العام الحالي 2020..
إنما ما تستطيع الدول السياديّة القيام به كثير إذا ما أرادت النهوض وعدم الانصياع للأوامر الأميركيّة وعدم الخوف من قوة «الدولار» فالأزمة اليوم اقتصادية وليست مالية بحتة خاصة أنّ الإغلاق شبه العام الذي شهدته دول العالم منذ أشهر مضت قد أضرّ بالدولار قبل كل شيء أي أضعف تلك القوة الأميركيّة المضافة وبالتالي اتجهت الأزمة نحو منحى اقتصادي موازٍ للأزمة المالية العالمية وستنعكس آثاره على الولايات المتحدة التي لطالما تغطرست لامتلاكها تلك القوة وهي اليوم تعاني من ضعفٍ نال من «دولارها»..
كما أنّ العقوبات على إيران وكوريا الشمالية مثلاً دفعتهما نحو الاكتفاء الذاتي، وبالتالي لم تقف تلك العقوبات عائقاً؛ إنما العائق يكمن في عدم انتهاز الفرصة وإيجاد فلسفة اقتصادية – مالية جديدة تحمي الدول من «الغطرسة» الأميركيّة..