اللامركزيّة الآن… ليست فدراليّة
البروفسور فريد البستاني*
بعكس ما يعتقد الكثيرون، أنّ الإصلاح السياسيّ يبدأ من فوق، ربما يكون الإصلاح الأهمّ سياسياً وإدارياً، هو الذي يبدأ من تحت، بعكس مكافحة الفساد وإصلاح النظامين المالي والاقتصادي. فالإسراع بتطبيق اللامركزية، يشكل الحاجة الملحة للبنانيين في مواجهة تعاملهم مع الشأن العام، ويأسهم من القدرة على التأثير في شؤون حياتهم اليومية، وشكواهم من عدم سيطرتهم على العديد من الموارد والقضايا التي تتعلق بعيشهم المباشر في المنطقة التي يتخذونها سكناً لهم، وجب أن يكون ذلك ممكناً من دون التفريط بما يجب حصره بيد سلطات الدولة المركزية، ودون الوقوع في مخاطر بناء كانتونات طائفية.
اللامركزية توجّه رئيسيّ للإصلاح تمّ التوافق عليه في اتفاق الطائف، وبقي مجمّداً منذ ثلاثة عقود، وكأنما جرى ربطه ضمناً بالسير بإصلاحات موازية كإلغاء الطائفية، وما في ذلك من مخاطرة تصوّر اللامركزية ثمناً للقبول المسيحي باللاطائفية، بما يؤكد جعل اللامركزية نوعاً من العيش النسبي خارج الدولة المركزية أو التقسيم يمنح للمسيحيين، وتصوير إلغاء الطائفية مكسباً طائفياً إسلامياً. وهذا ينفي عن الإصلاح كونه تحوّلاً وطنياً جامعاً، ولذلك فإنّ تحرير اللامركزية من هذا الربط الطائفي يجعل مقاربتها ومقاربة اللاطائفية كمسألتين منفصلتين، طريقاً وطنية صافية.
أحد أهداف اللامركزية، تشجيع المواطنين على تعاطي الشأن العام، والثقة بقدرتهم على تحسين شروط عيشهم، وتعلم ممارسة الديمقراطية، والربط بين هذه الديمقراطية والمساءلة، بما لا يحققه المستوى البلدي على أهميته، بسبب ضآلة الموارد والصلاحيات وضيق النطاق الجغرافي والسكاني عموماً، كما أنّ الملفات المعقدة على المستوى المركزيّ من نوع حلّ قضية النفايات، وربما ملف المقالع والكسارات، والإنماء المتوازن لن يستقيم بدون نشوء مؤسسات الإدارات المحلية اللامركزية على مستويات الأقضية والمحافظات، حيث تضع مجالس الأقضية والمحافظات مخططات توجيهية لهذا الإنماء، ويتمّ إقرارها في مؤسسات الدولة المركزيّة وتقاسم أكلافها وعائداتها بين الفريقين وفقاً لقوانين ترعى هذا التكامل.
الخشية من وقوع اللامركزية في مخاطر التشجيع على التجزئة والتقسيم، مشروع مبالغ به في آن، مشروع لجهة التحسّب لتقسيمات الوحدات اللامركزية تلبّي تطلعات جغرافيا طائفية وحزبية، قد تثير القلق، لكنه مبالغ به لجهة أن المطروح هو تقاسم للصلاحيات الإنمائية والإدارية بين وحدات الأقاليم والحكم المركزي، وليس تقاسماً للسلطات الأمنية والقضائية التي ترمز للدولة المركزية.
تسهيلاً للتوصل لإقرار سريع للامركزية يسقط الهواجس، يمكن التفكير جدياً باعتماد المحافظات الخمس كوحدات إدارية بصلاحيات أعلى والأقضية الإدارية التقليدية كوحدات أدنى بصلاحيات أقلّ، والمحافظات والأقضية وحدات إدارية سابقة للحرب الأهلية وإفرازاتها الطائفية والحزبية.
اعتماد المحافظات والأقضية يتيح تقاسم السلطات على مستويات ثلاثة، مستوى السلطة المركزية، مستوى المحافظة، ومستوى القضاء، وبقاء السلطة المركزية حاضرة في مستوى المحافظة والقضاء من خلال مهام وصلاحيات المحافظ والقائمقام.
تتشكل هيئات اللامركزية عبر الدعوة لانتخاب مجالس الأقضية والمحافظات وفقاً لقانون يعتمد التمثيل النسبي، ما يحمي التنوّع الطائفي والسياسي وتوازناتهما، ويؤكد على مفهوم الوحدة الوطنية، لكنه ومن حيث لا ندري سيضخ في شرايين النظام السياسي دماء جديد ويدفع للصف الأول قيادات جديدة، ويدرّب القيادات الشابة من مستوى الأقضية والمحافظات على التهيّؤ لتحمّل مسؤولية ممارسة الشأن العام على المستوى الوطني.
سنكتشف مع تطبيق اللامركزية قدر الاسترخاء الذي ستجلبه للتوترات الطائفية، كما سنكتشف مستوى التغيير الإيجابي في مناقشات المسائل الوطنية، ومنها المسألة الطائفية، والأهمّ أننا سنكتشف حجم فرص التنمية والنهوض الاقتصادي التي فتحت لها الأبواب، وسلاسة العمليات الإدارية التي يشكو منها الناس بلا استثناء. فاللامركزية، بعكس ما تتهم به، هي الطريق لسقوط دعوات التقسيم والتجزئة، ولتجديد التمسك بالوحدة الوطنية على أسس راسخة.
*عضو في مجلس النواب اللبناني.