النظام الأميركيّ وريث العنصريّة الطبقيّة البيضاء
} د. وفيق إبراهيم
مقتل مدني أعزل من الأقليّة السوداء على يد شرطيّ أبيض خنقه من دون سبب ملازم، ليس عملاً استثنائياً في التاريخ الأميركي.
فالأميركيّون البيض الذين غزوا القارة الأميركيّة بقسميها الشمالي والجنوبي، سفكوا دماء أكثر من سبعين مليوناً من الهنود الأحمر منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى مطلع القرن العشرين ولم يحرروهم من وضعية «العبد المملوك قانونياً لصاحبه الأبيض»، إلا في القرن العشرين، لكن الممارسات العنصرية تجاه الأقليات السوداء ظلت قائمة من خلال النظام الاميركي السياسي والاقتصادي الذي يعتمد على أكثرية كبيرة من البيض ونظام اجتماعي مغلق وأمن متشدّد واقتصاد لا يقلّ ضراوة عن الامن والسياسة.
أما ميزة هذا النظام فهو تسامحه «لغوياً» مع السود في مراحل ازدهاره الاقتصادي واتجاهه الى العنف والتشدد مع الأفريقيين الأميركيين في مراحل التراجع الاقتصادي.
لمزيد من الإنارة فإن النظام الاميركي هو الوريث الفعلي لنظام اوروبي غربي اجتاح آسيا وأفريقيا واوستراليا واميركا في القرنين الأخيرين واستعبد اهاليها من كل الاجناس والالوان ناهباً ثرواتها ومؤسساً لتعاملات ثقافية على اساس تفوق الرجل الابيض على ثلاثة أعراق أخرى هم السمر ومعظمهم من العرب والمسلمين وأبناء اميركا الجنوبية والأفارقة في قارتهم السوداء وأماكن إقاماتهم الجديدة وابناء العرق الأصفر في الصين واليابان وجنوب شرق آسيا.
هذه العنصرية بررت للغرب الأميركي والأوروبي الانتقال من التباينات الثقافية التاريخية الى اختلاف اقتصادي عميق له هرمية يقف على رأسها بشراسة أميركية أبيض ينتقل حذاء كاوبوي قاسٍ يرفس بمكوناته الحديدية الأقليات من الألوان الأخرى القابعة في أسفل الهرم ألا يمثل هذا الامر ذلك الشرطي الذي اوقع الاميركي الأسود المدني أرضاً وخنقه بركبته وحذائه وهو في وضعيّة الاستسلام الكامل.
كان يمكن لهذا الاغتيال أن يمر من دون اضطرابات كبيرة، لكنه اصطدم بمستويين كبيرين من التهديدات وأولها الشخصية العنصرية للرئيس الاميركي ترامب التي تواصل التحريض العنصري ضد الأعراق الثلاثة منذ بداية ولايتها الرئاسية وتحاول كسب الطبقات الفقيرة والوسطى من البيض بتحشيدها في وجه السود والمكسيكيين واللاتينيين والمسلمين، بأسلوب وقح يضخ مزيداً من العنصرية في نظام هو عنصري أصلاً. وترافق هذا الشحن مع التراجع الاقتصادي الذي تسببت به كورونا، وأصاب السود بشكل بنيوي يهددهم في حاضرهم ومستقبلهم والأغنياء البيض في هيمنتهم التاريخية الدائمة.
لذلك كان الصراع العنصري التاريخي الكامن في أوج استنفاره حيث خنق الشرطي المدني ذلك الاميركي الاسود من دون اي اسباب موجبة الا اللجوء الى قمع غير آمن يرتكز على الف عام غربي من قتل ابناء الالوان الثلاثة من السود والسمر والصفر بدم بارد وعنجهية التفوق الحضاري.
فتحرّكت الأقلية السوداء لتدافع عن نفسها تجاه نظام أمني قاتل واقتصادي يُصرّ على تثبيتها في اسفل السلم الاجتماعي، في محاولة للحدّ من مزيد من تدهورها في مرحلة ما بعد كورونا. اما من جهة ترامب، فتمكن من ضخ عيارات جديدة من العنصرية من خلال الاستعانة بالإنجيليين المسيحيين الذين يؤمنون بإعادة بناء هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى في القدس المحتلة.
ما جلب الى دائرة مؤيديه اليهود الأميركيين وهم لمزيد من التفسير، شبكات الاعلام الاميركي القوي والمصارف التي تشكل رأس النظام الأميركي بقوته المالية وعنصريته.
وهذا استنفر ايضاً الأقليات السوداء واللاتينية والصفراء والمسلمين، فأصبح هناك مشهد اميركي مذعور من الكورونا يفصل بين اميركيين بيض من اعلى السلم الاجتماعي الى فئاته الفقيرة البيضاء مقابل فئة من البيض غير المتأثرة بالجموح العنصري الأبيض ومعها اللاتينيون من أصول أميركية جنوبية والسود والمسلمون والأقليات الصفراء وصولاً الى ابناء اوروبا الشرقية المحظور عليهم الارتقاء الى مواقع قيادية في كامل القطاعين العام والخاص الأميركي.
هل يدفع هذا الانقسام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الى تصعيد الانتفاضة السوداء لتشمل الاقليات الاخرى في ثورة عارمة لمكافحة التمييز العنصري؟
لقد تنبّهت إدارة ترامب لهذا الاحتمال، فبدأت بدفع تعويضات شهرية تعادل قسماً من الأجر والراتب للاميركيين وطلبت 3000 مليار دولار من الكونغرس للاستمرار في توزيعها لثلاثة أشهر على الاقل.
بذلك تمتص انفجار الطبقات الفقيرة من السود، وايضاً من الفئات الفقيرة البيضاء الموالية لها، فهذه قد تتجه الى معارضة ترامب إذا انقطعت مواردها.
بما يعني ان ترامب مصمم على التجديد له في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بتحشيد عنصري أبيض من جهة وتوزيع اموال مساعدات على الجميع من جهة ثانية، وتحريض البيض على السود من جهة ثالثة وافتعال صراعات مع الصين وإيران وروسيا وسورية وفنزويلا واي منطقة أخرى للزوم تحشيد الأميركيين البيض من حوله، مركزاً بالتصويب على اول رئيس اميركي اسود اللون في تاريخ اميركا لمزيد من تحشيد البيض ومهاجمة منافسه الحزب الديموقراطي فيصفه بالحزب الراديكالي اليساري الاشتراكي والشيوعيين، ولولا الحياء لا يهمه الانتماء الى الحزب الشيوعي الصيني الأصفر.
يبدو ايضاً ان ترامب يعمل على تأجيج الصراع الأهلي الداخلي محتمياً بحقه الفدرالي باستخدام الجيش لقمع المتظاهرين عند الضرورة.
فيتوصل بذلك الى اختلاق اسباب عظمى تسمح بإرجاء الانتخابات كما حدث حين جرى إرجاء الانتخابات الاميركية في عهد روزفلت في الحرب العالمية الثانية.
هذا يعني ان مشكلة اميركا ليست في رئيس غير مثقف يؤمن بالمال فقط، بل في نظامها العنصري الذي يحتاج الى قوانين لإزالته من العرف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، باعتبار أن العنصرية ليست مكرّسة في القانون والدستور، إلا أن اتساع الانتفاضة الحالية لتجتاح معظم الولايات الاميركية تشير الى مرحلة أميركية دموية لن تسمح لترامب وامثاله بالعودة الى البيت الأبيض من جديد.