رياض سلامة وقانون النقد والتسليف (1)
غالب أبو مصلح
لا يتحمّل حاكم مصرف لبنان، وحده، المسؤولية عن «كوارث» السياسة النقدية، مع أنه المسؤول الأول عنها. لوزارة المالية حق الرقابة وواجبها على سياسة المصرف المركزي. تمارس وزارة المالية رقابتها على المصرف المركزي عب ر مفوّض المراقبة، وعبر مدير عام وزارة المالية في المجلس المركزي للمصرف، كما عبر واجب حاكم مصرف لبنان رفع الموازنة السنوية للمصرف إلى وزير المالية، وحق وزير المالية في الرقابة اليومية على عمليات القطع لدى المصرف المركزي. كما لمجلس النواب حق وواجب الرقابة على سياسة المصرف المركزي وأعماله.
أما استقلالية مصرف لبنان، فهي نسبية ومحصورة في النطاق المهني، وهي سقطت مراراً على أكثر من صعيد: حين أجبرت حكومة الرئيس رشيد كرامي مصرف لبنان على شراء سندات الخزينة بفوائد تقلّ كثيراً عن معدّلات التضخّم (حُدِّدت الفائدة بـ20%، حين كان معدّل التضخّم يزيد عن 80%)، حين لم تكتتب المصارف بالمبالغ التي تحتاجها الخزينة. وسقطت هذه الاستقلالية والحصانة عندما دفع الرئيس رفيق الحريري، حال وصوله إلى السلطة عام 1992، حاكمية المصرف إلى الاستقالة، ليأتي بفريقه الخاص إلى حاكمية المصرف؛ وكان على رأس هذا
(التتمة ص9)
الفريق مدير المحفظة الاستثمارية الخاصة لرفيق الحريري في مؤسسة التوظيف المالي «ميريل لينش»، رياض سلامة.
تصبح إقالة حاكم مصرف لبنان من منصبه «واجباً» عندما يخلّ بواجباته التي حدّدها قانون النقد والتسليف بشكل واضح. تنكّر حاكم مصرف لبنان لواجباته، وتجاوزها إلى سياساتٍ وأعمال لا علاقة للمصرف المركزي بها. لذلك، لا بد من محاسبته ومحاكمته، وإنزال أشدّ العقوبات بحقه، رغم ما يتمتّع به من «حصانة» أميركية.
تنصّ المادة 70 من قانون النقد والتسليف على الآتي:
«مهمة مصرف لبنان العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نموّ اقتصادي اجتماعي دائم. وتنصّ مهمة المصرف بشكل خاص ما يلي:
ـ «المحافظة على سلامة النقد اللبناني
ـ المحافظة على الاستقرار الاقتصادي
ـ المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي.
ـ تطوير السوق النقدية والمالية»
كما تنصّ المادة 72 على الآتي:
«على المصرف أن يقترح على الحكومة التدابير التي يرى أنّ من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وحركة الأسعار والمالية العامة، وعلى النمو الاقتصادي بصورةٍ عامة… يُطلع المصرف الحكومة على الأمور التي يعتبرها مضرّة بالاقتصاد والنقد».
كما يشدّد قانون النقد والتسليف على دور المصرف في القيام بدراساتٍ اقتصادية، ويفرض على الدوائر الحكومية ومؤسسات القطاع العام ومؤسسات القطاع المشترك تقديم ما يحتاج إليه من إحصاءات ومعلومات، كما تنصّ المادة 73 من قانون النقد والتسليف.
ينصّ قانون النقد والتسليف في «القسم الثالث» منه على إنشاء لجنة استشارية من ستة أعضاء، «أربعة يُختارون بالنظر إلى خبراتهم في الحقول المصرفية والتجارية والصناعية والزراعية، ويُختار واحد من مجلس الإنماء والإعمار، والسادس من أساتذة الاقتصاد الجامعيين، من الجنسية اللبنانية». إنّ تكوين هذه اللجنة يدلّ على شمولية مهمة مصرف لبنان، أو على الأقلّ على تساند قطاعات الاقتصاد وترابطها، وإعطاء السياسة النقدية أبعادها الشاملة، الاقتصادية والاجتماعية. فما الذي حقّقه مصرف لبنان، طيلة 27 عاماً من تحكّم رياض سلامة، في إطار المهمّات التي حدّدها قانون النقد والتسليف؟
سياسة الفوائد، أو «كلفة الأموال»
كان من المتوقّع، من أجل تحقيق «نمو اقتصادي واجتماعي دائم»، وبعد سنوات عجاف طوال، أن يخفّض مصرف لبنان الفائدة الحقيقية (معدّل الفائدة الجارية ناقص معدّل التضخّم) إلى حوالي الصفر، كما يقول علم الاقتصاد، وأن لا يتعدّى الفرق بين الفائدتين الدائنة والمدينة 1%. ترفع المصارف المركزية في العالم الفائدة الحقيقية إلى حوالي 4% إذا استهدفت كبح معدّلات التضخّم؛ وتخفّضها إلى حوالي الصفر إذا استهدفت رفع معدّلات نمو الناتج المحلي القائم. إنّ خفض الفائدة الحقيقية على التسليف يشجّع على التوظيف المنتج في قطاعات الإنتاج الحقيقي، ويرفع معدّل المردود الصافي لتوظيف الأموال المقترَضة من السوق المالية.
كان لبنان، سنة 1993، يعاني كثيراً من تفشّي البطالة وتوسّع نطاق الفقر ودمار مؤسسات الإنتاج والبنى التحتية. كان بأمسّ الحاجة إلى سياساتٍ نقديةٍ تنموية، إلى تشجيع ورفع معدّلات الإدّخار، وخفض معدّلات الفائدة الحقيقية على التمويل إلى حدود الصفر. لكن حاكم مصرف لبنان (مع ربط سعر صرف الليرة بالدولار وكبح معدلات التضخّم) رفع الفائدة الحقيقية على الاقتراض إلى حوالي 18%، بينما المردود المتوقَّع على التوظيف المنتج في قطاعات الإنتاج السلعي لا يتعدّى 6% في أحسن الأحوال. بذلك، طُرِدت قطاعات الإنتاج الحقيقي من السوق المالية اللبنانية.
مَن الذي يحدّد معدّلات الفائدة في سوقٍ ماليةٍ حرّة؟ إنّ عاملَي العرض والطلب يحدّدان معدلات الفوائد في سوقٍ حرّةٍ منافسة. وبما أنّ المصرف المركزي هو الذي يخلق الأموال ويضخّ السيولة ويحدّد معدلات السيولة المطلوبة، وهو الملاذ الأخير للمصارف للاقتراض بالعملة اللبنانية، ويحدّد فائدة «الحسم وإعادة الشراء»؛ فهو الذي يتحكّم بمعدلات الفائدة بالليرة. ومع ربط سعر صرف الليرة بالدولار، فالمصرف المركزي يتحكّم أيضاً بفائدة الإقراض بالدولار، مع حرّية صرف الليرة بالعملات الأجنبية. لكن ما حدث في السوق المالية اللبنانية كان أمراً آخر. كانت معدلات الفائدة على سندات الخزينة، والمرتفعة بشكل مفتعل، تشكّل العمود الفقري لهيكليّة الفوائد في السوق المالية اللبنانية. ألغى ثالوث جمعية المصارف – مصرف لبنان – وزارة المالية دور «السوق» في تحديد معدلات الفائدة بالليرة، كما بالدولار، على الودائع والتسليف. شكّلت جمعية المصارف، والتي لا مثيل لها في دول العالم الرأسمالي، بنيةً احتكاريةً كبيرة، ألغت دور المنافسة بين المصارف في تحديد معدلات الفائدة؛ وأصبحت هذه الجمعية تحدّد معدلات الفائدة، الدائنة والمدينة، بالليرة كما بالدولار، عبر تعاميم علنية للمصارف التجارية، مع إعطاء المصارف حق رفع معدلات الفائدة المدينة على الليرة والدولار ببضع نقاطٍ مئوية، ورفعها على الودائع الكبيرة ببضع نقاطٍ مئوية أيضاً، إضافةً إلى ما تحدّده تعاميم الجمعية. أما الفوائد على سندات الخزينة، فلا يتمّ تحديدها بعروض «مزايدات» من المصارف، مقابل معدّلات متصاعدة من الفوائد، بل يتمّ التوافق على معدلات الفوائد للإصدارات المتفاوتة الأجل لسندات الخزينة بين جمعية المصارف ووزارة المال وحاكم مصرف لبنان، وبسرّية تامة. لجمعية المصارف السطوة والسيطرة على هذا الثالوث، لأسبابٍ «اقتصادية» وسياسية، داخلية وخارجية. بالتالي، كان يتمّ تحديد معدّلات الفائدة لمصلحة المصارف ولزيادة ربحيّتها، على حساب مصالح سائر قطاعات الاقتصاد، كما على حساب المالية العامة ومستوى معيشة الجمهور.
يتذرّع مصرف لبنان بالحاجة إلى تدفّقاتٍ خارجيةٍ بالقطع الأجنبي لرفع معدّلات الفائدة على الدولار بشكلٍ خاص. لكن استقطاب هذه الأموال، في ظلّ معدلات الفوائد الحقيقية المرتفعة، يستقطب الأموال الساخنة القصيرة الأجل، الصالحة لتمويلٍ قصير الأجل أيضاً، في المضاربات وتمويل التجارة، حيث دورة رؤوس الأموال لا تتعدّى عادةً ثلاثة أشهر. لهذه الأموال قصيرة الأجل والمتدنّية الكلفة في الخارج القدرة على تمويل الإستهلاك العام والخاص. لذلك، نما الدَّين العام بمعدلات كبيرة جداً، وشهد لبنان تدفّقاتٍ ماليةٍ كبيرة بالدولار. وارتفعت القروض للأفراد من 2% من مجمل إقراض المصارف، عند بداية الألفية الثالثة، إلى 29% من إقراض المصارف سنة 2018؛ كما ارتفع عجز حساب المدفوعات الجاري إلى أكثر من 20% من الناتج المحلي القائم، وانخفضت معدلات الإدّخار إلى ما دون الصفر، بل إلى حوالي -10% (ناقص عشرة بالمئة)، كما يقدّر البعض. تقرّر معدلات الإدّخار، على المديين المتوسّط والطويل، معدلات التوظيف، والتي تقرّر بدورها معدّلات نمو الناتج المحلي. باختصارٍ شديد، إنّ سياسة الفوائد التي اتّبعها مصرف لبنان منذ سنة 1993 كانت لمصلحة المصارف والأثرياء، وضدّ مصالح قطاعات الإنتاج الحقيقي، وأيضاً ضدّ مصالح الخزينة اللبنانية وجمهور المواطنين. ساعدت هذه السياسة في تقويض مقوّمات الاقتصاد الوطني، وساهمت في دفع لبنان إلى فخّ المديونية وأحضان صندوق النقد الدولي ومشروطيّاته؛ وتسبّبت هذه السياسة في انهيار بنية قطاع المال، في نهاية المطاف. يتحمّل حاكم مصرف لبنان المسؤولية الأولى عن كلّ ذلك.
ارتفاع سعر الصرف الحقيقي لليرة
خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كقوة اقتصادية هائلة. قُدِّر ناتجها القومي بما يقارب 45% من الناتج العالمي. مكّن هذا الواقع الولايات المتحدة من تنصيب عملتها، الدولار، كعملةٍ عالمية، ومكّنها من إعادة بناء النظام الرأسمالي العالمي ومؤسساته المالية والاقتصادية والتجارية لتكون تحت سيطرتها، ولخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية. استُبدِل نظام النقد العائم الذي ساد في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية بنظام سعر الصرف الثابت للعملات، عبر ربط الأخير بالدولار، وربط الدولار بسعرٍ ثابتٍ بالذهب، الثابتة قيمته عبر التاريخ. جمعت الولايات المتحدة بذلك معظم ذهب العالم لديها. أخذ ميزان المدفوعات الجاري الأميركي في تحقيق عجوزاتٍ كبيرة منذ أواسط ستّينات القرن الماضي. نتيجة امتيازاتها المالية، استطاعت الولايات المتحدة سدّ عجز ميزان مدفوعاتها بعملتها الخاصة. بذلك، تراكمت لدى دول العالم كمّيات هائلة من الدولارات، بلغت أكثر من أربعة أضعاف ما تجمّع لدى الولايات المتحدة من الذهب. اتّضح خطر هذا الواقع على قيمة مدّخرات العديد من دول العالم عندما بدأت فرنسا ديغول باستبدال الدولارات التي لديها بالذهب من الولايات المتحدة. في سنة 1972، نتيجة عجز الولايات المتحدة عن تلبية طلبات استبدال الدولارات بالذهب، نكثت واشنطن بتعهّداتها لدول العالم، ورفضت الاستمرار باستبدال الدولار بالذهب بسعرٍ ثابت. بذلك، نقلت الولايات المتحدة نظام النقد العالمي من السعر الثابت إلى السعر العائم للعملات، وأصبح عاملَي العرض والطلب يحدّدان سعر صرف العملات كافة.
إنّ ربط سعر صرف الليرة بالدولار الأميركي، المتغيّر سعر صرفه نسبةً لعملات معظم دول العالم، لم يعنِ تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، كما يقول حاكم مصرف لبنان، بل يعني تبدّل سعر الصرف الحقيقي لليرة مع تبدّل سعر الصرف الحقيقي للدولار في أسواق العالم. إنّ تثبيث سعر صرف عملةٍ ما يعني تثبيت قدرتها الشرائية والتسويقية مع شركائها التجاريين. يعني ذلك ربط سعر صرف هذه العملة بسلّةٍ من عملات الشركاء التجاريين للدولة المعنية، وتثقيل عملات هؤلاء الشركاء بنسبة تجارتهم مع عملة البلد المعني. فالقول إنّ حاكم مصرف لبنان ثبّت سعر صرف الليرة عبر ربطه بالدولار منذ سنة 1993، هو قولٌ مخادع، فيه تضليلٌ كبير. يعني هذا الربط تبعيّة السياسة النقدية لمصرف لبنان، ولو جزئياً، للسلطة النقدية الأميركية، والتي تحدّدها المصالح الاقتصادية والمالية والسياسية للولايات المتحدة. إنّ مصالح الولايات المتحدة هذه لا تتطابق مع مصالح لبنان، بل ربما تتناقض معها.
تخفّض دول العالم سعر الصرف الحقيقي لعملاتها إذا كان ميزان مدفوعاتها يعاني من عجزٍ كبير. إنّ تخفيض سعر الصرف الحقيقي للعملة يرفع من قدرتها التنافسية، فينمّي الصادرات ويخفّض الواردات غير الضرورية، والتي تتوفّر بدائل محلية لها. لا تسمح الدول عادةً، حتى تلك التي لديها فائضٌ كبير في ميزان مدفوعاتها، برفع سعر الصرف الحقيقي لعملتها لأكثر من نقاطٍ معدودة، لا تتجاوز خمس نقاطٍ مئوية، إذا لم تكن مرغمة على ذلك، كما كان حال اليابان وألمانيا في سبعينات القرن الماضي وحتى الألفية الثالثة. لكن مصرف لبنان، بقيادة رياض سلامة، سمح برفع سعر صرف الليرة خلال تسعينات القرن الماضي بنسبةٍ تقارب 100%، أيّ أنه سمح بمضاعفة سعر الصرف الحقيقي لليرة، حسب دراسةٍ أجراها خبراء لبنانيون في صندوق النقد الدولي. وأظهرت دراسة لسعر الصرف الحقيقي لليرة منذ مطلع عام 1993 وحتى عام 1998 ارتفاعاً بنسبة 73%. أدّى هذا الارتفاع الهائل في سعر الصرف الحقيقي لليرة إلى تفاقم عجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات. تمّ استبدال الإنتاج المحلي بالمستوردات الزراعية والصناعية، حيث دُمِّرت صناعات الجلود والنسيج والمفروشات بشكلٍ خاص، كما أُغرِقت السوق اللبنانية بالإنتاج الزراعي الأوروبي المدعوم بنسبة 35% كمعدّل وسطي، والذي يدخل السوق اللبنانية برسوم جمركية لا تتعدّى الـ 5%.
كان للسياسة الكارثية في إدارة سعر صرف الليرة أن دفعت بالعديد من الصناعات اللبنانية إلى الدمار، فأفلست المؤسسات ووُرش الإنتاج الصغيرة، بينما رحلت مصانع كبيرة نسبياً ومتوسطة الحجم إلى مصر وجبل علي بشكلٍ خاص. كما أدّت هذه السياسة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج الزراعي وفقدان قدرة الصادرات الزراعية على المنافسة في سوق الصادرات الخليجية والعربية، كما في السوق المحلية. أدّى ذلك إلى تقلّص المساحات المزروعة في لبنان إلى أقلّ من ثلث الأراضي الصالحة للزراعة، وإلى هجراتٍ كثيفة من الريف إلى أحزمة الفقر حول المدن، وإلى ارتفاع معدلات الفقر والفقر المدقع والبطالة، خاصةً في المناطق الريفية، مثل عكار والهرمل وبعلبك والنبطية، كما تدلّ بعض الإحصاءات. أدّت هذه السياسات إلى انخفاض حصّة القوى العاملة من الناتج المحلي، أو من القيمة المضافة، من حوالي 64% في سبعينات القرن الماضي، إلى أقلّ من 22% في سنة 2019، وإلى أقلّ من 10% اليوم، نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية وثبات الأجور بالسعر الجاري لليرة. إنّ حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، يتحمّل المسؤولية الأولى عن هذه السياسات الكارثية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، ويجب محاكمته على ذلك.
تخلّف السوق المالية اللبنانية
لم يعمل مصرف لبنان برئاسة رياض سلامة، جدّياً، على تطوير السوق المالية اللبنانية، التي تقتصر في بنية مؤسّساتها الفاعلة على المصارف التجارية، دون غيرها من أنواع المصارف الأربعة. فبنوك التوظيف المالي التي تملكها بعض المصارف تعمل فقط على تهريب بعض ودائع البنوك التجارية من الاحتياطي الإلزامي. كما لم تعمل حاكمية مصرف لبنان على إعادة بناء السوق المالية (البورصة) على أسس حديثة. لم يعمل مصرف لبنان على إعادة إحياء المصارف المتخصّصة التي انبثقت في أواخر الستّينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، تلبيةً لحاجات الاقتصاد اللبناني من مؤسسات الاقتراض المتخصّص، المتوسّط والطويل الأجل، التي تحتاجه مؤسسات الإنتاج الحقيقي. بل مُنِعت هذه المصارف المتخصّصة، منذ ولادتها، من تلقّي الودائع التي تقلّ آجالها عن 4 سنوات. كان معدّل آجال الودائع في لبنان 40 يوماً فقط، أيّ أنّ هذه المصارف وُلِدت ميتة، وبرأسمال مشترك من المصارف والقطاع العام، أُجبرت المصارف على المساهمة به. أُفلِست هذه المصارف في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، نتيجة سياسات الإقراض المتّبعة فيها: الإقراض بالليرة اللبنانية، دون التحوّط لمخاطر تدهور سعر الصرف، وبفوائد ثابتة، دون التحوّط لإمكانية ارتفاع معدّلات التضخّم؛ بالتالي، لم يكن ثمة معدّل فائدة حقيقية ثابتة أو شبه ثابتة على الإقراض، يمكّن المصارف من الحفاظ على رأسمالها. إنّ اهيار سعر صرف الليرة في الثمانينات، والارتفاع الكبير في معدلات التضخّم، حوّلا إقراض هذه المصارف إلى شبه هبات للمقترضين، فخسرت هذه المصارف رؤوس أموالها، ومانعت المصارف التجارية إعادة تكوين رؤوس الأموال هذه. كان من المُفترض، ومن الحكمة، ربط قيمة القروض بسلّةٍ من العملات لتثبيت قيمتها الحقيقية، وإعطاء القروض بفائدة حقيقية ثابتة، أو بفائدةٍ عائمةٍ مرتبطةٍ بمعدلات التضخّم.
لم يعمل مصرف لبنان بجدّية على إعادة إحياء السوق المالية (البورصة) التي تزاحم المصارف في دور الوساطة المالية، والتي بإمكانها وضع المتموّل مباشرةً أمام المقترض، بكلفة وساطة متدنية جداً. تعارض المصارف التجارية قيام بورصة كهذه، لأنّ قيام بورصة حقيقية يدفع المصارف إلى تضييق الهوّة بين الفائدتين الدائنة والمدينة إلى حوالي 1%، بدل أكثر من 6%، كما هو الآن. إنّ البنية الإحتكارية للمصارف التجارية اللبنانية، والتي تشكّل قوةً سياسيةً ضاغطةً كبرى، نتيجة «تمويل» الأكثرية الساحقة من أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية، تعارض تطوير السوق المالية اللبنانية وتحريرها من هيمنتها.
يمكن القول إنّ حاكم مصرف لبنان لم يعمل على تنفيذ المهمّات التي حدّدها له قانون النقد والتسليف، وفقاً للمادة 70، بل عمد فعلياً على تخريب هذه المهمّات بوعي كامل، ولسنوات طوال جداً، تمتدّ إلى 27 عاماً، رغم تحذير الكثيرين من مخاطر هذه السياسات. وعمل الحاكم كذلك على خداع الرأي العام وإخفاء الوقائع عنه، واستعمال لغة موارِبة لتزوير الوقائع، واتخذ لنفسه وللمصرف المركزي أهدافاً أخرى بعيدةً عن ما نص عليه قانون النقد والتسليف، كما سنرى في الجزء الثاني من الدراسة.
*البورصة العاملة حالياً في بيروت ليست رسمية، ولا مراقبة، ولا تقوم بأعمال البورصة المتعارف عليها في العالم؛ وهي ملك لبعض المصارف التجارية.